أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب مجتمع أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الخوالدة يكتب: قراءة تحليلية في خطاب العرش.. رؤية ملكية للإصلاح والصمود


احمد الخوالدة

الخوالدة يكتب: قراءة تحليلية في خطاب العرش.. رؤية ملكية للإصلاح والصمود

مدار الساعة ـ

في خطاب العرش الذي ألقاه جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين في افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة العشرين، تجلت ملامح القيادة الهاشمية التي استطاعت أن تجعل من الأردن نموذجاً للاستقرار في منطقة تموج بالأزمات والصراعات. الخطاب حمل رسائل سياسية واقتصادية واجتماعية متوازنة، جمعت بين الواقعية والحكمة، وبين قراءة الماضي واستشراف المستقبل، فكان بمثابة وثيقة تؤكد استمرار الدولة الأردنية في نهجها الثابت نحو الإصلاح والتحديث، دون أن تتخلى عن ثوابتها الوطنية والعروبية.

بدأ جلالته خطابه باستحضار الذاكرة الوطنية حين قال إن الأردن وُلد في قلب الأزمات، لكنه استطاع أن يشق طريقه بإرادة أبنائه وإيمانهم بالله والوطن. في هذه العبارة الموجزة تختصر فلسفة الدولة الأردنية منذ تأسيسها، دولة لم تُمنح ظروفاً مثالية، بل صنعت قوتها من رحم التحديات. حين يصف الملك الأزمات بأنها رفيقة المسيرة، فإنه لا يتحدث من باب البلاغة، بل من تجربة واقعية لدولة وُجدت في محيط صعب، ومع ذلك نجحت في تثبيت مؤسساتها السياسية والعسكرية والاقتصادية حتى أصبحت اليوم نموذجاً للصمود في وجه العواصف الإقليمية.

وفي لحظة إنسانية صادقة، يعترف جلالته بأنه يقلق، لكنه لا يخاف إلا الله، ولا يهاب شيئاً وفي ظهره أردني. هذه العبارة تعكس عمق العلاقة بين القائد وشعبه، وتُظهر أن القيادة في الأردن ليست مفصولة عن الناس، بل تتقاسم معهم الهمّ والمسؤولية. هنا يقدم الملك نموذجاً فريداً في التواصل السياسي القائم على الصراحة والمشاركة، فهو لا يتحدث من موقع السلطة فقط، بل من موقع الشراكة في بناء الوطن.

الخطاب أيضاً حمل بُعداً اجتماعياً وطنياً قوياً، حين وصف الأردني بأنه حامي الحمى، الذي يفتح بابه للمستغيث، ويزرع فيُطعم، ويُعلّم فيُثمر، ويرفع رأس وطنه بين الأمم. هذا الوصف كان إعادة تثبيت لقيم المجتمع الأردني القائمة على الكرامة والتكافل والإيثار، وهي القيم التي يراها الملك أساساً لأي مشروع وطني ناجح.

أما على صعيد الإصلاح الداخلي، فقد كان الملك واضحاً بأن الطريق ما زال طويلاً ويتطلب عملاً وجهداً، مؤكداً أن أمام مجلس النواب مسؤولية متابعة ما تم إنجازه في مسار التحديث السياسي والحزبي، وأن الهدف الأسمى هو خدمة الوطن، ولا شيء غير الوطن. هذه العبارة تلخص رؤية الدولة الحديثة التي يسعى الملك لترسيخها.برلمان قوي، أحزاب فاعلة، ومؤسسات تخدم المصلحة العامة بعيداً عن المصالح الشخصية أو الفئوية.

وفي الجانب الاقتصادي، دعا جلالته إلى مواصلة تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي لجذب الاستثمارات وتوفير فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة، مشدداً على أن الأردن لا يمتلك رفاهية الوقت، وأن المطلوب هو الاستمرار في تطوير القطاع العام ليشعر المواطن بأثر الإصلاح في حياته اليومية. تركيز الملك على التعليم والصحة والنقل كمفاتيح لتحسين نوعية الحياة يعكس وعياً دقيقاً بأولويات المواطن الأردني، الذي ينتظر أن يرى نتائج ملموسة لخطط الإصلاح والتنمية.

الخطاب لم يغفل السياق الإقليمي والدولي، حيث تناول جلالته الكارثة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، مؤكداً استمرار الأردن في تقديم المساعدات الإغاثية والطبية، ورفضه القاطع للانتهاكات الإسرائيلية. هذا الموقف ليس جديداً، لكنه يأتي اليوم بصيغة أكثر وضوحاً وصلابة، ليؤكد أن الأردن ما زال ثابتاً في مواقفه التاريخية تجاه فلسطين والقدس، وأن الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية ليست مجرد التزام سياسي، بل واجب وطني وديني وأخلاقي.

كما أكد الملك أن الأردن بقي قوياً رغم تبدّل الأزمات، مستنداً إلى إرث من بنى هذا الوطن على قيم العزة والكرامة، وإلى جيش عربي مصطفوي سليل أبطال حملوا راية الدفاع عن الأرض. الإشارة إلى ولي العهد الأمير الحسين في الخطاب جاءت لتؤكد استمرارية النهج، وأن الأجيال الأردنية الجديدة ستبقى على خط الوفاء ذاته، جنداً لهذا الوطن، كما وصفه جلالته.

في قراءة تحليلية شاملة، يمكن القول إن خطاب العرش هذا العام لم يكن مجرد افتتاح رسمي لدورة برلمانية جديدة، بل كان إعلاناً لتجديد العقد بين الدولة والمجتمع، بين القيادة والشعب. الخطاب قدم تشخيصاً دقيقاً للواقع الأردني، ووضع خريطة طريق تقوم على العمل والمواصلة لا على الانتظار أو التراخي، محدداً بوضوح أن الإصلاح لم يعد ترفاً سياسياً بل ضرورة وطنية.

وفي الوقت ذاته، حمل الخطاب رسائل طمأنة بأن الأردن، رغم ما يحيط به من تحديات، سيبقى صامداً ومتماسكاً بقوة مؤسساته وشعبه. الرسالة الجوهرية التي يمكن استخلاصها هي أن الأردن لا يُقاس بحجمه الجغرافي أو موارده المحدودة، بل بإرادته السياسية وصلابة قيادته، وهي إرادة صاغها التاريخ وثبتتها التجربة.

بهذا المعنى، يعيد خطاب العرش تثبيت المعادلة التي قامت عليها الدولة الأردنية منذ تأسيسها. قيادة حكيمة، وشعب واعٍ، ومؤسسات صلبة. إنها معادلة البقاء والاستمرار في وطنٍ لم يعرف الانهزام رغم كل ما مرّ به من عواصف. وفي ختام الخطاب، حين يقول جلالته إن خدمة وطننا واجب مقدس علينا جميعاً، وهي دعوة مفتوحة لكل أردني ليكون جزءاً من صناعة الغد، في وطن لا يخاف على نفسه لأنه قوي بشعبه، وواثق بمستقبله لأنه مؤمن بعدالة قضيته وصدق مساره.

مدار الساعة ـ