“وأمام هذا المجلس مسؤولية متابعة ما تم إنجازه في مسار التحديث السياسي، وتعزيز العمل الحزبي النيابي المكرس لخدمة الوطن – لا شيء غير الوطن.”
"جلالة الملك عبدالله الثاني"هذه الرسالة ليست مجرّد رسالة عابرة في خطاب العرش السامي، بل هي خلاصة فلسفة الحكم في المرحلة الجديدة من مسار التحديث السياسي. في هذه الكلمات، يوجّه الملك مجلس الأمة إلى جوهر التحوّل الذي أراده للدولة: أن تكون السياسة في خدمة الوطن، لا في خدمة المواقع أو الأفراد أو الحسابات الظرفية أو الأجندات العابرة.الرسالة، بتوقيتِها ومضمونِها، تحمل تكليفًا ومسؤوليةً معًا. فالتحديث السياسي الذي بدأ بمخرجات اللجنة الملكية لم يعد مشروعًا مؤجلاً أو تجريبيًا، بل أصبح جزءًا من البنية المؤسسية للدولة الأردنية. وبالتالي، فإن مجلس النواب بات في صميم هذا التحوّل، لا متفرجًا عليه.المرحلة المقبلة تتطلّب من المجلس أن يترجم إرادة التحديث إلى ممارسة تشريعية ورقابية واعية، تتجاوز منطق النيابة الفردية نحو النيابة البرلمانية البرامجيّة. يجب أن لا يعود الناخب ينتخب الأفراد بوصفهم وسطاء خدمات، بل ممثلين ضمن كتل حزبية تحمل برامج وطنية واضحة ومُعلنة. وعليه، فإن التحدي الحقيقي أمام المجلس الأمة العشرون هو أن يُعيد تعريف ذاته: أن يكون مجلسًا للبرامج لا للأشخاص، وأن يخلق ثقافة سياسية جديدة داخل القبة، قوامها الحوار البرامجي لا الاستعراض الخطابي.لم تعد العلاقة بين مجلس النواب والحكومة محصورة في الإطار التقليدي للمساءلة السياسية الشكلية. المرحلة الجديدة تفرض مفهومًا أعمق للمساءلة، يرتكز على متابعة الخطط التنفيذية لمسار التحديث السياسي باعتباره التزامًا وطنيًا مشتركًا، لا مسؤولية جهة منفردة. على المجلس أن يُفعّل أدواته الرقابية بشكل مؤسسي ومنهجي، مستندًا إلى مؤشرات أداء واضحة لمدى تقدم الحكومة في تنفيذ التزاماتها المرتبطة بالتحديث السياسي: من تهيئة للبيئة السياسية، وتطوير الحياة الحزبية، وتمكين الشباب والمرأة، إلى تعزيز المشاركة المحلية وترسيخ ثقافة الحكم البرامجي.هذه المساءلة ليست تصعيدًا أو صدامًا، بل شراكة في المسار وتكامل في الأدوار. فالحكومة مطالبة بتقديم تقارير دورية شفافة تُعرض على المجلس، بينما على المجلس أن يُمارس المتابعة المستمرة بأسلوب قائم على التقييم والمراجعة والاقتراح، لا على الاتهام والمناكفة. إنها رقابة إيجابية تُعزّز الثقة، وتحوّل المساءلة إلى أداة لحماية المشروع الوطني، لا لإحراج الحكومة أو تسجيل المواقف السياسية.وفي ظل هذا التحوّل، تتحمّل الأحزاب السياسية مسؤولية تاريخية. فالمطلوب منها اليوم أن تُثبت قدرتها على تجاوز الخطاب الهويّاتي والجهوي نحو خطاب وطني جامع يُعبّر عن رؤية وبرنامج. العمل الحزبي لم يعد ترفًا ديمقراطيًا، بل أداة لتجديد بنية الدولة السياسية، ولتحقيق التحول من دولة الإدارة إلى دولة السياسة، حيث تُصنع السياسات العامة داخل المؤسسات الحزبية والبرلمانية لا في الغرف المغلقة. هنا تتجلى فلسفة التحديث كما أرادها الملك: أن تستعيد السياسة معناها الأخلاقي والوطني، وأن يتحول الحزبي إلى نموذج في الانتماء لا في التنافس السلبي.لقد وضع جلالة الملك، من خلال هذه الرسائل، خريطة طريق واضحة المعالم. لم تعد مسارات التحديث السياسي والاقتصادي والإداري مشاريع موازية، بل حلقات في مشروع وطني واحد لا يقلّ أحدها عن الاخر في الأهمية وتقوم جميعها على قيم المشاركة والعدالة والمواطنة الفاعلة. وعليه، فإن مجلس الأمة والحكومة والأحزاب جميعها أمام اختبار النضج السياسي: هل سننجح في تحويل هذا المشروع من نصوص وتشريعات إلى ثقافة وممارسة مؤسسية دائمة؟ إن الجواب الحقيقي سيكون من خلال الأداء والأدوات، لا من خلال الخطابات. نكررها كما قالها جلالة الملك: لا شيء غير الوطن.الحسبان يكتب: من التوجيه إلى التمكين.. التحديث السياسي كمسؤولية دولة لا مشروع حكومة
مدار الساعة ـ