أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

فريحات يكتب: حين بدأت الصين حكاية الذهب الصافي من النهاية


د. راشد فريحات

فريحات يكتب: حين بدأت الصين حكاية الذهب الصافي من النهاية

مدار الساعة ـ

حين أدركت الصين أن القيمة الحقيقية لا تكمن في المعدن الخام وحده، بل في القدرة على ابتكاره واستثماره وقيادة التعامل معه، تغيّر مسار الحكاية.

هناك، حيث التقى الابتكار بالصناعة، وُلد "الذهب الصيني" الصافي الصلب، ليعلن عن فصلٍ جديد في علاقة الإنسان بالمعدن، فصلٍ يبدأ من مختبرات بكين لا من مناجمها.

ومن هنا، تطرح الصين منطقًا جديدًا في تراجيديا العلم والقوة والابتكار، إذ تجاوزت دور المستهلك لتصبح صانعة المجد، وتخطّت موقع المراقب لتغدو من يعيد رسم الموازين ويتحكم بإيقاعها، انتقلت من هامش الانتظار إلى مركز الفعل، وحوّلت الدهشة من انبهارٍ عابر إلى صناعةٍ تحمل اسمها وملامحها.

لكنّ الجديد هذه المرّة أن "الذهب الصافي الصلب" لم يكن وليد مصنعٍ أو صدفة، بل ثمرة مشروعٍ علمي شاركت فيه أكثر من عشرين مؤسسة بحثية في مجالات الكيمياء الفيزيائية والمعادن الدقيقة، لتصنع ذهبًا يحمل هوية دولة، لا مجرد منتج.

قبل أن تعرف الأسواق هذا الاسم، كانت بكين تُخفي وراء جدران مختبراتها برنامج "الابتكار الذهبي الوطني" الذي أُطلق قبل خمس سنوات، وهدفه تحويل المواد الثمينة إلى مواد ذكية.

خلال تلك السنوات، درس العلماء التشابك الذري بين الذهب والعناصر الأرضية النادرة، حتى توصّلوا إلى توليفةٍ تجمع بين النقاء والصلابة، بتركيبة نقاء تصل إلى 99.9% وصلابة تبلغ 60 درجة على مقياس فيكرز، أي ما يعادل صلابة الفولاذ اللين تقريبًا، بفضل إضافة 0.1% من عناصر مثل التنغستن والإيريديوم، التي أُعيد توزيعها بدقة داخل الشبكة الذرية للمعدن.

هذه ليست مجرد تجربة فيزيائية، بل ثورة فكرية في فلسفة الفخامة. فالصين لا تُعيد صياغة الحُلي فحسب، بل تعيد تعريف الجمال كقيمة إنتاجية لا يمكن الاستغناء عنها.

لقد أصبح "الذهب الصافي الصلب" مثالًا حقيقيًا على ما تُسميه بكين اليوم "التكنولوجيا الثقافية"، وهي الفكرة التي تدمج بين الفن والعلم في المنتج الواحد، بحيث تصبح قطعة المجوهرات وثيقة هوية، كما هي تحفة تصميم.

ومع أن الأسواق كانت منشغلة بارتفاع سعر الأونصة إلى 4074 دولارًا، اختارت الصين ألا تنافس في السعر، بل في الجوهر.

وفي الوقت الذي كانت فيه بعض الدول تقلّص استهلاك الذهب، كانت المصانع الصينية تُدرّب جيلًا جديدًا من الصاغة على التعامل مع هذا المعدن الجديد، مستفيدة من تقنيات الليزر الدقيقة التي تسمح بنحت الذهب الصافي الصلب دون أن يفقد مرونته البصرية.

ولذلك، ظهرت في معارض شنغهاي وبكين وهونغ كونغ مجوهرات خفيفة بوزنٍ أقل بنسبة 30% مقارنة بالذهب التقليدي، لكنها أكثر صلابة بأربع مرات.

ومع صعوده في السوق، تغيّر المزاج الذهبي في الصين، لم يعد الشراء بحثًا عن الزينة، بل استثمارًا في التقنية.

فالمستهلك الصيني اليوم يرى في هذا الذهب رمزًا للتوازن بين الثراء والعلم، وقد وصلت مبيعاته إلى ما بين 20 و25% من إجمالي مبيعات الذهب في البلاد، بينما بدأت شركات من دبي والهند وتركيا بإرسال وفود تقنية إلى الصين لدراسة إمكانية تصنيع النماذج محليًا.

وفي سبتمبر الماضي، أعلن مجلس الذهب العالمي بالتعاون مع أربع عشرة شركة صينية كبرى عن مبادرة "طريق الحرير الجديد للذهب المبتكر"، التي تهدف إلى ربط الأسواق الآسيوية والعربية عبر منصة تصدير للذهب التكنولوجي، في إشارةٍ إلى أن "الذهب الصافي الصلب"، لم يعد مجرّد حُلية، بل سلعة استراتيجية ضمن منظومة الابتكار العالمي.

ولعل المفارقة أن الصين، التي قادت ثورة الماس الصناعي قبل أعوام، عادت الآن لتقود ثورة الذهب، مُعيدةً بذلك تعريف جوهر القيمة .. فالثروة لم تعد ما نملكه من باطن الأرض، بل ما نُضيفه إلى جوهرها.

عمليًا، تجاوزت الصين فكرة استشراف المستقبل، فلم تعد تترقبه لتواكبه، بل صنعت ملامحه بيديها، لتنتقل من التنبؤ بما سيكون إلى ابتكار ما ينبغي أن يكون، ومن السير خلف التطور إلى قيادته، حتى غدت المعيار الذي يقيس به العالم خطواته نحو الغد.

وبالنسبة لنا كعرب، يبقى السؤال معلّقًا في عنق المرحلة: أَنظلّ شهودًا على صعود الآخرين وهم يصنعون مجدهم، أم نحطم صمتنا وننهض لنصوغ قوتنا من جديد، نكتب حضورنا في زمنٍ لا يعترف إلا بالأمم التي تخلق مصيرها بيديها.

مدار الساعة ـ