أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الهاشميون والأردن


جواد العناني
رئيس الديوان الملكي ونائب رئيس الوزراء الأسبق

الهاشميون والأردن

جواد العناني
جواد العناني
رئيس الديوان الملكي ونائب رئيس الوزراء الأسبق
مدار الساعة (العربي الجديد) ـ

آخر خطاب وجهه ملك الأردن عبد الله الثاني إلى الشعب الأردني كان يوم الأحد الموافق 26 أكتوبر/ تشرين الأول، أو قبل أقل من أسبوع من صدور هذا المقال في صحيفة "العربي الجديد". وقد استغرق إلقاء الخطاب حوالي إحدى عشرة دقيقة. ولولا العدد الوفير من التصفيق والوقوف وتأني العاهل الأردني في قراءته لما احتاج الخطاب لأكثر من سبع دقائق. وفي العادة فإن خطابات الملك سواء كانت بالعربية أو بالإنكليزية تكون خفيفة الظل، مشتملة على معانٍ وموضوعات سامية. ولكنها تبقى قصيرة، أو متقيدة بالمدد الزمنية المسموح بها. خطاب العرش الذي ألقاه في قاعة مجلس الأمة الأردني مفتتحاً الدورة الثانية من مجلس الأمة العشرين حافظ على النسق الملكي المعهود.

وقد ركز الخطاب في محتواه على عدد من النقاط الأساسية التي رأى الملك أن من الضروري تظليلها حتى تظهر للعيان بشكل واضح. وأولها أنه أثنى على صمود الشعب الأردني أمام الأزمات المتلاحقة التي واجهها منذ العام 2008، حين وقعت أزمة الأوراق المالية العقارية (الرهونات) وتحولها تدريجياً إلى أزمة اقتصادية ألقت بيديها الثقيلتين على عنق الاقتصاد الدولي، وكادت تخنقه، ولولا تدخل الرئاسة الأميركية في بداية عهد الرئيس باراك أوباما وضخها أكثر من 800 مليار دولار خاصة في المؤسسات المالية الكبرى في شارع وول ستريت لأنهارت بنوك كبرى مثل سيتي غروب، وغولدمان ساكس، وبنك أوف أميركا وغيرها. وقد اعتبر هذا حينها إنقاذاً للشركات المسؤولة عن الأزمة أصلاً. وسمحوا لشركة مالية واحدة بالوقوع وهي "ليمان بروذرز" أو "الإخوة ليمان". ولكن أثر ذلك التحسن لم يؤثر إلا بقدر قليل على الاقتصاديات النامية مثل دولة كالأردن.

وما كاد الأردن يستفيق من تلك الصعقة حتى بدأ الربيع العربي. ومع أنه بدأ في دول مثل تونس وانتقل إلى ليبيا واليمن. ومن بعدها اشتعلت الأمور في جنوب سورية وفي مصر والمغرب. وقد جرت محاولات لتحريكها في الأردن، إلا أن الشرطة وجنود الأمن العام في الأردن تعاملوا بمنتهى الذوق مع المتظاهرين فكانوا يراقبونهم عن قرب ولكن دون الاحتكاك بهم، ويقدمون لهم المياه والعصائر، ويفتحون لهم الطرقات ليسيروا على راحتهم. وقارن الشعب الأردني بين الأسلوب الذي تعاملت به الشرطة والأمن في بلدهم والتعامل الذي كان يجري مع المحتجين في الدول العربية الأخرى.

وقد أدى ذلك إلى هروب الرئيس التونسي آنذاك وزوجته، وتنحي الرئيس المصري، ومن ثم الرئيس اليمني وتغيير الحكومة إلى حكومة إسلامية النزعة في المملكة المغربية، والهدوء في الأردن، واشتعال الجبهة الداخلية السوريه وقتل الآلاف، وتشريد الملايين داخل سورية وخارجها. وكذلك تمكنت إيران من استثمار الفرصة لكي تعزز وجودها في أربع دول عربية هي العراق وسورية ولبنان واليمن، رغم أن الحوثيين الزيدييين لم يريدوا ذلك. وأنا زرت اليمن مرات عدة ولم أكن أعرف أن بعض الأصدقاء كانوا زيديين، أو لم أعرف إن كانوا من أهل الجماعة. ولكن مع تطور الأحداث زرت جمهورية إيران الإسلامية مرتين لأحضرالمؤتمر السنوي وسمعت من بعض كبار شيوخهم من يفتخر بأن إيران قد احتلت أربع عواصم عربية بوجود ممثلين عن تلك الدول في ذلك المؤتمر.

وبسبب هذه الأحداث تعرض الأردن لخسائر اقتصادية فادحة وضغوط اجتماعية وسكانية على موارده الأساسية المحدودة، مثل الماء والنفط، وزادت كلف التخلص من القمامة، وتشغيل وسائل الصرف الصحي. والأهم هو أن الأردن فقد تجارته مع سورية وشحنات الترانزيت القادم من أوروبا عبر سورية ثم الأردن في الطريق إلى دول مجلس التعاون، وفقد صادراته إلى لبنان والسياحة الصحية من اليمن والجزائر والسودان، والسياحة التعليمية والثقافية والترفيهية. وكذلك تعطلت صادرات الأردن وبخاصة من الخضار والفواكه وارتفعت كلفة الشحن من ميناء العقبة وإليه داخل الأردن وخارجه. وقدرت الخسائر بما لا يقل عن 1.5 مليار وملياري دولار في السنة أو ما يساوي آنذاك حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي.

ولكن الأمر الأدهى تمثل في زيادة أعداد اللاجئين وطالبي العمل في السوق الأردنية. ولم يقم الأردن بإغلاق المعابر إليه في وجه طالبي الملاذ الآمن فيه. ويقدر عدد سكان الأردن في الوقت الحاضر بحوالي 11.8 مليون نسمة، وهو رقم قُدِّر للأردن أن يصله بعد 20 سنة من الآن. ولذلك ضاعت على الأردن فرصة توسيع طاقته الاستيعابية السكانية بمقدار 20 إلى 25 سنة. وهو عبء كبير على كاهل دولة كانت مهددة بنقص المياه ونقص المال ونقص البنى التحتية والبنى الاجتماعية كالمدارس والمستشفيات والطرق والسكن حتى قبل انفجارالربيع العربي. وقد استمر الأردن حتى عام 2019 في تحقيق معدلات نمو سالبة في معدل دخل الفرد، ولكن الاقتصاد الكلي كان ينمو كل عام بمقدار يقارب 2%، ولكن معدل الزيادة في السكان كان يصل في بعض السنوات إلى 5%، ما يجعل معدل دخل الفرد يتراجع بنسبة (سالب 3%).

وعانى الأردن بعد ذلك من ارتفاع الأسعار والكلف بسبب اللاجئين وبسبب انتشار وباء الكوفيد-19. وقد آثر الأردن حينها أن يصر على منح الأولوية لمعالجة الوباء وآثاره على المواطنين بدلاً من التركيز على استمرار الحياة الاقتصادية. ورغم أن الوباء أوقف وتيرة عمل الشركات والمؤسسات العامة والمدارس والمستشفيات والقطاعات التجارية والخدمية، إلا أن قابلية الأردنيين لتبني وسائل التكنولوجيا الحديثة مكنتهم من الحفاظ على التعليم في المدارس والجامعات وفي المستشفيات وفي عمليات الشراء والبيع عن طريق التسليم (Delivery)، ما قلل حجم المؤثرات السالبة على الحركة الاقتصادية. ومع هذا، فقد ارتفعت كلف مستوردات الأردن من الحبوب واللحوم وغيرها، وقد تعمقت هذه الأزمة أكثر لأن مقاطعة روسيا من قبل دول كثيرة وإضعاف قوة أوكرانيا صاحبة الإنتاج الكبير من القمح على الإنتاج والتصدير، تسببا في رفع الأسعار، وعانى الأردن أكثر.

وأخيرا منذ اندلاع الحرب في غزة وما نتج عنها من حرب مدمرة واعتداء إسرائيلي سافر، ومن زيادة يقظة القوات العسكرية والأمنية واستعدادها لحماية حدود الأردن من المسيرات ومن المدفعية والصواريخ وتهريب المخدرات، زادت الأعباء الدفاعية في ظل التهديدات الإسرائيلية. وتقدم الأردن لمساعدة الأهل في الضفة والقدس ضد الهجمات الهمجية عليهم من قبل القوات الإسرائيلية. وتوج الأمر بتولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة وما تسبب فيه خلال الأشهر العشرة الأخيرة من الحروب التجارية والسياسية والتكنولوجية ومن غموض، أدت كلها إلى إرباك كثير من الدول المرتبطة مع الغرب مثل الأردن.

هذا غيض من فيض ما واجهه الأردن، والذي أظهر صفات لدى الشعب أعجبت الملك. وركز على أن صمود الأردن قد نبع من مصدرين أساسيين، الأول هو نشامى الجيش الأردني الذين يقفون على الحدود مستعدين للتضحية حباً بالوطن وأهله وقيادته ومؤسساته. والثاني هو الوحدة بين أبناء الشعب الأردني والتماسك عند الشدائد. وقد أبدى الملك عبد الله الثاني إعجابه بذلك وذكر بأنه "قلق" من التحولات والتقلبات في المنطقة، ولكنه لن يستسلم ولن يضعف لأنه لا يخاف أحداً إلا الله سبحانه وتعالى. وفي إشارته إلى الشباب، قال الملك إن "الحسين ابني وابنكم" جاهز للعمل والتضحية أمامكم. وهو بذلك يريد التأكيد على تعريف نفسه بأنه وإن كانت عيناه زرقاوان وأنه يتكلم اللغة الإنكليزية بطلاقة، إلا أنه أردني حتى النخاع، وأن قوة شكيمته وعزمه لا تلغي حقيقة أنه بشر وله قلب مثل قلوب الناس. ويكاد يذكرنا بما ورد في النص القرآني على لسان رسول الله محمد بن عبد الله "إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي". وأعتقد أنه سجل بهذا الأسلوب موقفاً راسخاً لدى الشعب الأردني.

وفي الحديث السياسي ركز على الاستمرار في دعم أهل غزة وعلى المسؤولية الأردنية في الوصاية الهاشمية، ولم يذكر لا بالمدح ولا بالرفض إسرائيل أو قادتها الحاليين ولا تعرض كذلك للسلطة الفلسطينية. ولكن المقابلة التي بثتها محطة BBC الأميركية مع الملك في برنامج بانوراما أكد أنه لن يرسل قوات إلى غزة، وأنه لا يؤمن بأن قوات دولية ستنجح في الدور الأمني هناك. خطاب الملك على قلة كلماته كان عميقا وشاملا ومختصرا، فهو خطاب وليس مقالة وخير الكلام ما قل ودل. وقد سبقه والده الراحل الملك الحسين بن طلال الذي مجده الملك في خطابه وكان عاطفياً عند ذكره له، وقال إن الحسين ترك لنا إرثا من السياسة والإنجاز ما مكّن الأردن من الاستقرار والتفوق على الصعاب، وتحقيق الاستقرار والنمو المطرد في بلد غني بالطاقة والثروة البشرية.

ونظرته إلى المستقبل القريب متفائلة. ولكنه نبه الأردنيين إلى ضرورة العمل وبذل أقصى الجهد المستطاع لأن رفاهية الوقت ليست متاحة وأمامنا فرص قادمة يجب أن نستثمرها. والتحدي الأساسي في الأردن أمام الملك الهاشمي هو التمكين الاقتصادي وتخفيف البطالة خاصة بين الشباب، وحل أزمة النقل، وإعادة الألق إلى التعليم والصحة. وهذه هي الأولوية الأولى وهو على ثقة أن الأردنيين لن يقصروا في هذا المضمار. الراحل الحسين كان خطيباً ويحب اللغة الجميلة وكذلك الراحل الملك طلال واضع الدستور والملك عبد الله الأول، والمؤسس كان شاعراً وكاتباً وخطيباً والملك عبد الله الثاني صاحب ذلك الإرث.

مدار الساعة (العربي الجديد) ـ