في زمنٍ ازدحمَ فيه الضجيجُ حتى خيّمَ على صمتِ الأرواحِ، باتتِ العقولُ تتيهُ بين ما يلزمُها وما يثقلُها، بين تَفاهةِ اليوميّاتِ وعظمةِ الغاياتِ. هناكَ لحظةٌ فارقةٌ، لا تُولَدُ من المصادفةِ، بل من صحوةٍ فِكريةٍ تُشبِه انفجارَ النورِ في ظلمةٍ سحيقةٍ؛ لحظةٌ يُدرِكُ فيها الإنسانُ أنَّ التفكيرَ ليس مجرّدَ فعلٍ ذهنيٍّ، بل هو رحلةُ ارتقاءٍ، عبورٌ من فوضى الانشغالِ إلى وعيِ الانتقاءِ.
ليس كلُّ ما يُعرَضُ علينا يستحقُّ أن نحملَهُ في عقولِنا. فالتفكيرُ في كلِّ شيءٍ يُتعِبُ، أمّا التفكيرُ في الأهمِّ فيُثمِرُ. الحكمةُ ليست في كثرةِ الأسئلةِ، بل في نُدرةِ ما نسمحُ له أن يشغلَنا. حين نُدرِكُ أنَّ لكلِّ فكرةٍ وزنًا في ميزانِ الوعيِ، نبدأ بتركِ ما لا يلزمُنا، والانطلاقِ إلى ما يلزمُنا؛ كمن يَتخفّفُ من ثِقْلٍ لا يخصُّه، لينطلقَ نحوَ مساحاتٍ أوسعَ من الصفاءِ.الفكرُ ـ يا أصدقائي ـ ليس ساحةً لكلِّ زائرٍ عابرٍ، بل هو مملكةٌ لها حُرّاسُها. لا يُسمحُ لكلِّ فكرةٍ أن تعبرَ أسوارَها، لأنّ بعضَ الأفكارِ طُفيليّةٌ تتغذّى على نقاءِ الوعيِ، وتُشعلُ في العقلِ صراعاتٍ لا جدوى منها. لذلك كان لِزامًا على العاقلِ أن يُتقنَ فنَّ الحراسةِ الفكريةِ، أن يسألَ كلَّ فكرةٍ: مِن أين أتيتِ؟ وإلى أين ستقودينني؟ فإن لم تكن وجهتُكِ الارتقاءَ، فمصيرُكِ الرّحيلُ.إنَّ الارتقاءَ بالفكرِ ليس ترفًا، بل هو موقفٌ من الحياةِ. هو أن ترفضَ الغرقَ في صغائرِ الأحداثِ، وأن تجرؤَ على النظرِ من أعلى؛ حيث تُرى التفاصيلُ في حجمِها الطبيعيّ. فالعقلُ الذي يُتقنُ فنَّ «الاختيار» بين المهمِّ والأهمِّ، هو الذي يصنعُ الفارقَ بين مَنْ يعيشُ ردّاتِ الفعلِ، ومَنْ يصنعُ الفعلَ ذاته.التفكيرُ بالأهمِّ هو تمرّدٌ على فوضى العابرين، ثورةٌ هادئةٌ ضدَّ استهلاكِ الوعيِ في اللاشيءَ. كم مِن إنسانٍ خسرَ نقاءَهُ لأنّه فكّرَ فيما لا يعنيهِ، وكم مِن آخرَ ازدهرَ لأنّه آمنَ أنَّ عقلَهُ أثمنُ من أن يكونَ مستودعًا لمخاوفِ الآخرين. التفكيرُ بالأهمِّ ليس انسحابًا من الحياةِ، بل هو انتقاءٌ ذكيٌّ لما يستحقُّ أن يمنحَكَ عمرًا جديدًا كلّما أمعنتَ فيه تأمّلًا.في السياسةِ كما في النفسِ، يظلُّ التغييرُ الحقيقيُّ يبدأُ من الفكرةِ؛ من قرارٍ داخليٍّ بألّا يُستنزفَ العقلُ في متابعةِ الغبارِ، بل في فهمِ الريحِ التي تُثيرُه. من هنا يولدُ الوعيُ، وهنا تُبنى الأممُ التي تُفكّرُ بعمقٍ لا بضجيجٍ.ولأنّ العقولَ العظيمةَ لا تُقاسُ بكثرةِ أفكارِها، بل بصفائِها وترتيبِها، فإنَّ الارتقاءَ بالتفكيرِ يعني أن تُنظّمَ فوضاكَ الداخليةَ كما يُنظّمُ الشاعرُ بحورَهُ، وكما يُهذّبُ الفيلسوفُ كلماتِه قبل أن يضعَها في فمِ الحقيقةِ. فالفكرُ الناضجُ هو الذي يتصالحُ مع ذاتِه، ويعلمُ أنَّ بعضَ الأسئلةِ تُزرعُ ليُجابَ عنها، وبعضَها يُترَكُ لينضجَ في صمتِهِ؛ لأنَّ النضجَ أحيانًا هو أن تعرفَ متى لا تُفكّرُ.وفي النهايةِ، حين تصعدُ روحُكَ في سُلَّمِ التفكيرِ الواعي، ستدركُ أنَّ العظمةَ ليست في أن تُفكّرَ كثيرًا، بل في أن تُفكّرَ صوابًا؛ أن ترتقي لا لأنّكَ فوقَ الآخرين، بل لأنّكَ تجاوزتَ نفسَكَ القديمةَ، وبلغتَ مراتبَ النضجِ التي لا تُرى، بل تُحَسُّ في سكينةِ الفكرِ واتّزانِ الرؤيةِ.فهناكَ يبدأُ الإنسانُ الحقيقيُّ… حين يختارُ أن يُفكّرَ بما يستحقُّ فقط.قرقودة تكتب: الفكر يا أصدقائي ليس ساحة لكل زائر عابر بل مملكة لها حراسها
مدار الساعة ـ