على مدى أكثر من ربع قرن، قاد جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه واحدة من أكثر السياسات الخارجية نشاطاً في المنطقة، زيارات متكررة لعواصم العالم، حضور في المؤتمرات الكبرى، لقاءات مع القادة وصنّاع القرار في الشرق والغرب، ومواقف واضحة في قضايا الإقليم من فلسطين إلى العراق، سوريا والسودان
كل هذا النشاط الذي لا يغيب والذي يُذكر لجلالته كان لهدف عظيم يسعى إليه بإقتدار ليبني ما تقوم عليه الدبلوماسية الأردنية، منذ تأسيس الدولة، وهو مبدأ الاعتدال والتوازن، ولحرص جلالته على تعزيز التحالفات الدولية، وحماية الاستقرار الوطني في منطقة تعصف بها الأزماتالزيارات الملكية هي جزء من إستراتيجية البقاء والتأثير، هدفها الأساسي ضمان دعم سياسي واقتصادي مستمر، والحفاظ على صورة الأردن كحليف موثوق في مكافحة الإرهاب وحماية اللاجئين والدفاع عن المقدساتالسؤال الذي يطرحه المواطن الأردني اليوم بواقعية هو: لماذا بقيت الدبلوماسية الأردنية فاعلة بإقتدار على الصعيد الخارجي، فيما النتائج الملموسة داخل البلاد محدودة؟الحراك الملكي حقق للأردن حضوراً دولياً يتجاوز حجمه الجغرافي، وبينما تفككت بعض دول الجوار أو انزلقت إلى حروب أهلية، حافظ الأردن على تماسكه واستقراره، وهذا بحد ذاته إنجاز سياسي ودبلوماسي واضحكل هذه المكانة التي يحققها جلالة الملك إلا أنّ أثر هذه السياسة الخارجية لم تقدر الحكومات الأردنية المُتتالية لم تستطع تجسيده إقتصادياً أو معيشياً على المواطن، فالأردني الذي يسمع عن اتفاقيات الدعم أو الشراكات الإستراتيجية لا يلمس نتائجها داخلياً، في الخدمات العامة أو التعليم، أو الصحة أو في مكافحة البطالة، أو التنمية المحلية كما يجب، وهنا يكمن قصور الحكومات في عكس وترجمة ما يُنجزه الحراك الملكي على المستوى السياسي وما يجب أن يُنفّذ على المستوى التنفيذيتظهر البيروقراطية وضعف المتابعة جليّة، فما يتم على أكمل وجه خارجياً غالباً ما يتعثّر في الداخل، لغياب آلية متابعة حقيقية، وتداخل الصلاحيات بين الوزارات، اللذان يحوّلان الكثير من الاتفاقيات إلى مجرد عناوين إعلاميةتهيمن على الأردن منذ عقود المساعدات الخارجية لتغطية العجز المالي، وبدلاً من استثمارها في مشاريع إنتاجية مستدامة، نجد أن الدولة مستقرة مالياً على المدى القصير، لكنها لا تتقدّم اقتصادياً على المدى الطويل، ناهيك عن ضعف الإدارة الاقتصادية والسياسية للفرص المتاحة فهو واضح، فعندما يحصل الأردن على دعم أو استثمار، فإننا لا نجد نموذجاً إدارياً واضحاً لتحويله إلى عائد اجتماعي تنموي، فالمشاريع تُدار غالباً بطريقة تقليدية، بعيدة عن التفكير الإنتاجي أو الابتكاريعاني الأردن من حالة متقدمة من انفصال الخطاب الرسمي عن واقع المواطن الذي لا يتلقى معلومات شفافة عن مآلات الاتفاقيات والمنح، وغياب الشفافية هنا يولّد شعوراً بعدم الثقة، وكأن السياسة الداخلية تتحرك في عالم موازٍ عن الخارج، فالمساعدات لم تعد تُمنح بسهولة، والدعم السياسي أصبح مشروطاً بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية ومع غياب الإصلاح العميق، تتضاءل جدوى الزيارات والاتفاقيات إن لم يتم مواكبتها داخلياًيدرك المواطن الأردني أن الجهد الملكي الكبير في فتح الأبواب الخارجية يحتاج إلى منظومة تنفيذ وطنية أكثر كفاءة لتترجم هذه الجهود إلى نتائج ملموسة، فالتحدي الحقيقي يكمن في الداخل، حيث تُعيق البيروقراطية وضعف الكفاءات، وتشتت القرار الاقتصادي قدرة المؤسسات على مواكبة الحراك الملكي وتحويل مكتسباته إلى فرص تنموية حقيقية، مما يجعل كثيراً من الإنجازات الدبلوماسية تتراجع زخمها بمجرد عودتها إلى عمانومن ناحية أخرى، فإن ضعف آليات المتابعة والمساءلة المؤسسية يجعل من الصعب تقييم ما تحقق فعلياً من كل زيارة أو اتفاق أو شراكة. كما أن غياب التقارير الدورية التي تشرح للمواطن أين وصلت الاستثمارات، أو كيف استُخدمت المساعدات، يُبقي الفجوة قائمة بين الجهد السياسي المبذول بقوّة وبين النتائج التنموية المرجوّة، وهذا يستدعي تطوير أدوات رقابة ومراجعة أكثر شفافية وفاعليةحتى تُثمر الدبلوماسية الأردنية تنمية حقيقية، لا بد من إصلاح داخلي موازي يربط السياسة الخارجية بنتائج اقتصادية ملموسة، ولتحقيق ذلك على الحكومات تمكين الدبلوماسية الملكيّة لتكون أداة بقاء وإنتاج في نفس الوقت، وتكون كل زيارة أو اتفاق جزءاً من خطة اقتصادية محددة بجدول زمني ومؤشرات قياس معلنة للجميعإنّ إصلاح الجهاز التنفيذي هو متطلّب شعبي وملكي في الوقت نفسه ليصبح الأردن قادراً على استثمار الفرص، ويجب أن نجمع بين توقيع الاتفاقيات اتفاقيات الكبرى، وبين وجود فرق متخصصة لتحويلها إلى مشاريع واقعية على الأرض بما يخدم مصلحة الوطن والمواطنكما يجب على الحكومات تعزيز الشفافية والمساءلة العامة، وأن يكون المواطن على معرفة بما جلبته كل إتفاقيّة، وأين أُنفقت المساعدات، فالمعرفة تولّد الثقة، والثقة هي أساس المشاركة الوطنية الفاعلةالزيارات الملكية الفاعلة والتي يعتبرها المواطن الأردني تحافظ بحكمة على محور توازن واستقرار الدولة في محيط تعصف به الويلات، ومنحت الأردن شبكة علاقات تحميه باستمرار ، ويستحق الوطن وقيادته الحكيمة من الجميع أن تُترجم هذه الجهود إلى رافعة اقتصادية وتنموية واجتماعية، وأن يكون الداخل جاهزاً لاستقبال ثمارها، فالتحدي اليوم يتركز في فتح الأبواب الخارجية، وبناء قدرة داخلية على عبور تلك الأبواب، وحين يتحول الخطاب الدبلوماسي إلى خطة تنموية فعلية تنفذها الحكومات، سيشعر المواطن أخيراً أن الرحلات التي جابت العالم كانت تسير نحوه مصلحته، لا بعيداً عنه.الوريكات يكتب: لماذا لم تُترجم الدبلوماسية الأردنية إلى تنمية داخلية؟
عبد المنعم الوريكات
عقيد متقاعد
الوريكات يكتب: لماذا لم تُترجم الدبلوماسية الأردنية إلى تنمية داخلية؟
                
                عبد المنعم الوريكات
عقيد متقاعد
عقيد متقاعد
مدار الساعة  ـ