أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

صناعة الوهم العربي


عمار محمد سالم

صناعة الوهم العربي

مدار الساعة ـ

مدار الساعة - كتب عمار محمد سالم - لم تكن الهزيمة لحظة عابرة في التاريخ العربي الحديث، بل صارت مؤسسة كبرى ذات فروع إعلامية وثقافية وسياسية تُدير عقلَ الأمة أكثر مما تُدير جيوشَها. منذ عام 1948 لم تبدأ سلسلة الهزائم كما يُروَّج، بل بدأت صناعة الوهم شركة كبرى قررت أن تغطّي الخراب بالشعارات، وتحوّل سقوطَ الدول إلى دليلٍ على عظمة الرسالة العربية التي تنتظر فقط الظروف المناسبة لتنهض.

لم يُهزم العرب لأنهم ضعفاء فحسب، بل لأنهم صدّقوا أنهم أقوياء قبل أن يكونوا كذلك. فبدل أن يتحوّل سقوطُ الأنظمة إلى لحظة مراجعةٍ عميقة، تحوّل إلى مناسبةٍ لإنتاج خطابٍ انتقامي لا يسأل: «لماذا هُزمنا؟» بل يكتفي بالصراخ: سنعود، سننتصر، سنحرر

بينما كانت دولٌ في آسيا وإفريقيا وأوروبا تُبنى على قاعدةٍ عملية: مؤسسات اقتصاد معرفة جيش منظّم، اختزلت بعض الأنظمة العربية معنىَ القوة بصورة بسيطة: صورة زعيم، خطبةٍ ملتهبة، استعراض عسكري، وإذاعةٌ تُعلِن أن المعركةَ القادمة ستغيّر وجه التاريخ. منذ 1948 وإلى اليوم لم تكن المشكلة فقط أن العرب بلا قوة، بل أنهم يصرّون على اعتبار الصوت قوة، والشعار جيشًا، والبطولة خطابًا. هكذا وُلدت الظاهرة الأخطر في التاريخ العربي الحديث: وهم القوة وهم لم يُبنَ على أرض الواقع، بل على الهواء.

صناعة البدايات الوهمية

لم يكن حجم الكارثة خسارة الأرض فحسب، بل إضاعةُ فرصةٍ لمعرفة الذات. كان يمكن أن تكون 1948 لحظة تأسيس وعي نقدي، لكنها تحوّلت إلى لحظةِ تأسيس خطابٍ بطولي بلا مضمون. الأنظمة العربية آنذاك لم تقل فشلنا، لم تعترف بهزيمتها، بل قالت: تآمروا علينا. هكذا بدأت علاقةُ العرب بالهزيمة: الهزيمة دائمًا مؤامرة، وليست نتيجةَ ضعفٍ ذاتي. قبل عصر طويل، حذّر عبدالرحمن الكواكبي من أن الاستبداد يصنع أوهامًا أخلاقية وثقافية قبل أن يصنع الفسادَ السياسي، العرب قرروا أن يبحثوا عن بطلٍ خارق لا عن نظامٍ رشيد. ومن هنا بدأ الإيمانُ بالزعيم، لا الإيمانُ بالمؤسسة.

صعود القومية العربية: مشروع أم مسرح؟

مع صعود جمال عبد الناصر لم تولد قوة عربية جديدة بقدر ما وُلد خطابٌ عربي جديد. صحيح أن الرجل امتلك كاريزما وشجاعة وسيرة نضالية، لكن المشكلة ليست شخصيةً فحسب، بل في التحوّل الذي أحدثته الأنظمة والإعلام: أصبحت القوميةُ دينًا سياسيًا يوزّع الجنة والنار بحسب الولاء لا بحسب النتائج. وبدل أن نتساءل:كيف نبني اقتصادًا؟ كيف نؤسس جامعة؟ كيف نصنع سلاحًا؟، صار السؤال: من هو العدو؟ ومن هو الخائن؟ وان اعتداء الكيان وتصعيده في لبنان وسوريا وفلسطين يقف بين ثلاثة خيارات التفاوض والبحث عن سلام والخيار الثاني أن نقاوم ولكن بدون سلاح والثالت معرضة شديدة تقول يجب ان نقاوم بسلاح وعدم الاستسلام والتفاوض (نفاوض الكيان على ارضنا وسلاحنا). وهكذا تحوّلت المعركة الأولى للخطاب القومي ليس ضد الاستعمار فحسب، بل ضد المعارضين داخل البيت .

الإعلام العربي: من نقل الواقع إلى صناعة الخيال

تقدّم الإعلام العربي خطوة هائلة ليس على صعيد المهنية، بل في القدرة على إطلاق الوعود. لقد كانت إذاعة (صوت العرب) أحد أكبر مصانع الوهم في التاريخ السياسي الحديث: تصرخ بأن النصر قادم حتى عندما تكون الدبابات على أبواب العاصمة وعلى الحدود المصرية و لبنانية والعراقية حتى بعد أن اصبحت الدبابات داخل دمشق وتسيطر على 4 محافظات سورية كانت تبث الخطب بدل الخرائط، والحماسَ بدل الخطة العسكرية. والمفارقة أن أول جيوشٍ عربية امتلكت إعلامًا أقوى من أسلحتها لم تنتصر في معركةٍ واحدة كانت كل انتصارتها على ما يعيق تقدمها داخليا. ومع ذلك، لم يتوقف الإعلام عن الصراخ؛ بل صنع معادلةً مذهلة: كيف تحول الهزيمة العسكرية إلى انتصار معنوي وهو أول شكل عربي لما سُمِّي لاحقًا إدارةَ الهزيمة بدل منعها.

الأنظمة العسكرية: من التحرير إلى الحكم باسم التحرير

منذ 1952 في مصر، 1958 في بعض تجارب العراق، 1963 في سوريا، تحوّلت الجيوش من مؤسساتٍ وطنية للدفاع إلى وسائلٍ للوصول إلى السلطة. هنا وقع التحوّل الأخطر: الجيش الذي يفترض أن يبني القوة صار صاحبَ القرار السياسي والاقتصادي والإعلامي. تحول من مؤسسة خدمة عامة إلى مؤسسة فوق المجتمع. ولم يعد معيارُ بقاء الأنظمة تحريرَ الأرض، بل حماية النظام من الشعب ومنذ تلك اللحظة بدأ ميزانُ القوى العربي ينهار من الداخل: جيوشٌ تملك سلطةً مطلقة داخل حدودها، لكنها عاجزةٌ عن الانتصار خارجها.

الاستعمار… الشماعة المقدّسة

منذ 1948 صار الاستعمار الكلمةَ الذهبية التي تبرّر كلَّ شيء: الفشل الاقتصادي، القمع السياسي، غياب الصناعة، تفكك المجتمع، انهيار الجامعات، ضياعُ فلسطين وسوريا ولبنان والعراق. جزءٌ من ذلك كان حقيقةً، لكن الأخطر أن الأنظمة سرقت خطابَ التحرر لتغطي به استبدادَها. وظهَر ثنائيٌ قاتل في تاريخ السياسة العربية: العدو الخارجي + الخائن الداخلي. فنَجَا النظام مرتين: لأنه يقاوم العدو، ولأنه يكشف المؤامرة الداخلية وهكذا لم يعد مطلوبًا منه تحريرُ الأرض، بل فقط محاربةُ المتآمرين.

لم تتعلم الأنظمة العربية من النكبة سوى درس واحد: تحويل الهزيمة إلى خطاب بطولي. فلسطينُ لم تحتل على الخريطة فحسب، بل على مستوى وعي الشعوب. كان من المفترض أن تصبح الهزيمة فرصةً لإعادة بناء الذات الوطنية، لكن حدث العكس: أُعيد تغليف الهزيمة بالشعارات لتغطّي على الفشل المؤسساتي والاقتصادي والسياسي. وهكذا وُلد مفهوم الهزيمة كحافز معنوي تناقض صارخ: كيف تتحوّل الكارثة إلى مصدر قوة ما لم تُصحح الأسباب؟

النشيد القومي كبديل عن الإنجاز

في قلب هذا الوهم تكمن القوةُ الرمزية: جيوشٌ تُعرض في الاستعراضات أكثر مما تُستخدم في المعارك، إعلامٌ يروّج للانتصار قبل أن يتحقق، وأبطالٌ وطنيون يصبحون رموزًا أكثر من كونهم صانعي واقع. صارت الشعاراتُ مثل إسرائيل زائلة لكن لم نعمل على ازالتها بل ننتظر الوحي أو الوحدة العربية قادمة ونحن على خلاف مذاهب نكفر هذا ونفسق هذا ... على خلاف كيف ستتكون الوحدة نركز على اختلافاتنا بديلًا عن البنية التحتية، عن الاقتصاد، عن التعليم، عن الصناعة عن كل مشروع عملي يجعل الأمة قوية فعلاً.

وفي الختام إنَّ ما نعيشُه اليوم صناعةٌ منظَّمة للوهم تُغذّي إيهامَنا بقوتٍ لا وجودَ لها على الأرض. لن تخلّصنا الشعارات، ولا تبرّرنا الخطبُ المتوهِّجة. القوةُ الحقيقية تُبنى بالمؤسَّسات، بالعلم، بالاقتصاد، وبقيادةٍ تخضع للمحاسبة لا بزعيمٍ يُعرض على شاشات الاحتفال. إما أن نُعيد بناءَ أنفسنا على الحقائق، أو نستمرُّ في الاحتفال بفشلٍ مُعلَّبٍ داخل صناديق الاستعراض.

مدار الساعة ـ