لا احسد رئيس الوزارة السابق الدكتور بشر الخصاونة على موقفه حين يخرج في برنامج "بودكاست"حتى يحاول أن يفكك مفاصل "الحالة الاردنية الفريدة" التي فيها الكثير من التعقيدات والسرديات، والتي جاءت نتاج اطار شامل داخليا وخارجيا من الصياغات والارهاصات، ما زال العقل الجميعي بالمجمل يجهل كيف عشناها وتعايشنا معها وتجاوزناها.
فمن الصعب أن تُختصر الحالة الأردنية في تحليل تقليدي او حوار عام أو "بودكاست" فهي ليست قصة استقرار كامل ولا حكاية أزمة دائمة، الأردن يعيش في "مساحة رمادية دقيقة بين التحدي والقدرة وبين ضغط الجغرافيا ومرونة السياسة" فكل محاولة لفهم الأردن بمعايير الدول الأخرى تصطدم بخصوصية التجربة الأردنية، التي تمزج بين البساطة في الموارد والتعقيد في التوازنات.ما يجعل توصيف الحالة الأردنية مهمة شائكة، هو أن الأردن ينتمي إلى مدرسة “الاستثناء العربي” لا هو دولة نفطية محصنة اقتصاديا، ولا هو بلد منهك سياسيا أو منقسم اجتماعيا، أنه كيان متين بين الشد والجذب، يعيش تحديات مستمرة من دون أن ينكسر، ويتكيف من دون أن يذوب، لذلك يخطئ من يحكم على الأردن بمنطق الأرقام وحدها أو الخطاب السياسي الظاهر، لأن جوهر التجربة الأردنية يكمن في قدرتها على تحويل الهشاشة إلى صلابة، والضغوط إلى منهج إدارة وقصة نجاح لوطن عظيم وقائد فذ وشعب مخلص.الأردن ليس دولة عابرة في الجغرافيا، بل كيان يتكون في قلب الصراع والتقاطع الإقليمي، فموقعه الجغرافي يجعله صلة وصل بين المشرق والمغرب العربي، وبين الخليج والبحر المتوسط، وبين الأمن والاستقرار في المشرق العربي وبين مناطق النزاع المزمن، هذه الجغرافيا الحادة "لم تكن نعمة خالصة ولا نقمة مطلقة" بل قدر سياسي دائم التفاعل، جعل من الدولة الأردنية "فن إدارة التوازنات" مدرسة قائمة بذاتها.منذ تأسيس الإمارة عام 1921، واجه الأردن تحديا مستمرا في الحفاظ على استقلال قراره السياسي، رغم اعتماده البنيوي على التحالفات، فالأردن يدرك أن أمنه مرتبط بمحيطه، لكنه في الوقت ذاته يبني سياسته الخارجية على معادلة البقاء بين المحاور دون الانخراط فيها.هذه المرونة ليست ضعفا بل عقلانية استراتيجية، فالدولة التي تجاور فلسطين وسوريا والعراق والسعودية لا تملك ترف العزلة، لكنها أيضا لا تستطيع الارتهان لطرف دون آخر، من هنا برز الدور الأردني كموازن إقليمي، يسعى لاحتواء التوترات لا إشعالها، وهو دور عززه موقع المملكة الجغرافي وأكسبها وزنا دبلوماسيا يفوق حجمها الجغرافي والسكاني، فالأردن كان ولا يزال محور الاستقرار في محيط مضطرب، وممرا آمنا للحوار بين القوى الإقليمية والدولية.اقتصاديا، يعيش الأردن مفارقة الندرة في الموارد والثراء في الموقع، فالمملكة من أكثر الدول العربية افتقارا للموارد الطبيعية، وتعتمد على المساعدات والاستثمارات الخارجية، إضافة إلى قطاع الخدمات والسياحة، إلا أن هذه الندرة تحولت مع الوقت إلى رافعة للابتكار الاقتصادي والإداري، فالأردنيون طوروا نموذجا يعتمد على الكفاءة البشرية والتعليم والانفتاح التقني.لكن التحدي الحقيقي يكمن في الضغوط الاجتماعية الناتجة عن البطالة وارتفاع كلفة المعيشة، وهي تحديات تفاقمت بفعل الأزمات الإقليمية - من اللجوء السوري الى الصراعات الإقليمية إلى اضطرابات الأسواق العالمية ... - ورغم ذلك حافظ الاقتصاد الأردني على صلابة نسبية بفضل السياسة النقدية المحافظة والاقتصاد المفتوح، إضافة إلى شبكة الدعم الدولي القائمة على الثقة السياسية.اجتماعيا، يتميز الأردن بتشكيلة سكانية متنوعة فريدة، في نسيج استطاع النظام السياسي توحيده ضمن "هوية وطنية واحدة جامعة" فالمجتمع الأردني رغم التحديات والاختلافات، يحمل ولاء مؤسسيا منقطع النظير للنظام الهاشمي وللدولة الاردنية وليس لفئات وفصائل كما هو الحال في العديد من دول المنطقة، الامر الذي شكل العمود الفقري لاستقرار المملكة سياسيا واجتماعيا.هذا الولاء لم يأت من فراغ، بل جاء نتاج "عقد اجتماعي غير مكتوب" يقوم على توازن بين رؤية جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين الإصلاحية والتنموية للأردن، والتي تتضمن ربط الأمن بالتنمية والسلام بالعدالة، ودور العشائر الكبير في تشكيل النسيج الاجتماعي الوطني الذي يساند اخلاصا وحبا المؤسسات الامنية والعسكرية بكل صنوفها ومكوناتها.في نهاية المطاف، يمكن توصيف الحالة الأردنية بأنها نموذج للنجاح عبر إدارة التناقضات، فالدولة الأردنية "لم تبن على فائض القوة بل على حكمة الموازنة بين الإصلاح والاستقرار وبين الولاء والانفتاح" وما يميز السردية الأردنية هو أنها سردية وعي لا صدام، وعي بدقة التوازن المطلوب في محيط متقلب، ووعي بحدود الممكن السياسي في زمن تتداخل فيه المصالح والقوى.شطناوي يكتب: الأردن سردية الوعي والتوازنات 'لا يختصر بخطاب ولا يفكك في بودكاست'
مدار الساعة ـ