مدار الساعة - كتب المحامي مصطفى القرعان -
لم تعد كلمة “الطلاق” غريبة على مسامعنا كما كانت قبل سنوات. في كل حيّ وشارع، نسمع قصة جديدة عن بيتٍ انكسر، وأطفالٍ ضاعوا بين والدين، وحياةٍ كانت عامرة بالمودة تحوّلت إلى خصومة في أروقة المحاكم.الطلاق في الأردن اليوم ليس مجرد “حدث عائلي”، بل ظاهرة اجتماعية تترك آثارها على الأمن الأسري والاستقرار النفسي، وتمتد لتؤثر على مستقبل جيلٍ كامل.● أرقام تدق ناقوس الخطرتشير بيانات دائرة قاضي القضاة إلى أن معدلات الطلاق في الأردن بلغت حوالي 2.5 حالة لكل ألف شخص سنويًا، أي أن عشرات الآلاف من الأسر تمرّ بتجربة الانفصال سنويًا.وفي الوقت ذاته، ارتفعت حالات الزواج بنحو 5% العام الماضي، مما يعني أن العدد الكلي للطلاق ازداد دون أن ترتفع النسبة العامة كثيرًا.لكن الأرقام وحدها لا تروي الحقيقة كاملة؛ فخلف كل حالة طلاق هناك طفل يبكي، وأمّ تنهار، وأبّ يعاني من الذنب أو الندم.⚖ أسباب تتكرر… ومسؤوليات تُهمَلمن خلال عملي كمحامٍ أرى أن أغلب قضايا الطلاق لا تبدأ فجأة، بل تتراكم أسبابها بصمت:زواج مبكر دون وعي أو تأهيل كافٍ.ضغوط مادية ومعيشية خانقة.تأثير الإعلام ومواقع التواصل التي روّجت لصورة “الحياة المثالية” وجعلت المقارنة سببًا للتفكك.ضعف الإرشاد الأسري وغياب الحوار بين الزوجين.وما يؤلم أكثر، أن كثيرًا من الأزواج لا يدركون أن الطلاق ليس نهاية الخلاف فقط، بل بداية صراع جديد حول الأطفال والنفقة والحضانة والزيارات، وهي معارك تترك آثارها العميقة في نفوس الجميع.? الأطفال أول الضحاياأثبتت الدراسات المحلية والعالمية أن الأطفال في الأسر المنفصلة أكثر عرضة للاضطرابات النفسية وضعف التحصيل الدراسي والانطواء الاجتماعي.طفل يرى أمه تبكي كل ليلة، أو يعيش بين بيتين متنازعين، لا يمكن أن يشعر بالأمان الداخلي.ومجتمع يكثر فيه هؤلاء الأطفال، يفقد شيئًا من توازنه وسلامه الاجتماعي، لأن البيت هو المدرسة الأولى في الدين والأخلاق والانتماء.●من منظور القيم الإسلاميةالإسلام لم يحرم الطلاق، لكنه جعله أبغض الحلال لما فيه من هدمٍ لبناءٍ شريف.قال تعالى:> “وإن يتفرقا يغنِ الله كلاًّ من سعته وكان الله واسعًا حكيمًا.”أي أن الطلاق قد يكون رحمة في بعض الحالات، لكنه لا ينبغي أن يكون أول الحلول ولا وسيلة للانتقام أو الهروب.فالزواج ميثاق غليظ، ونجاحه يحتاج إلى صبرٍ، وحوارٍ، وتنازلٍ، وليس عنادًا أو كبرياءً.● نحو مجتمعٍ أكثر وعيًاإن مواجهة ظاهرة الطلاق لا تكون بالتشريعات وحدها، بل بنشر ثقافة الزواج الواعي، وتأهيل الشباب قبل الدخول في الحياة الزوجية، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأسرة عند الأزمات.كما يجب على مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والجهات الدينية إطلاق برامج توعية تُعزز قيم المودة والرحمة، وتعيد للأسرة الأردنية مكانتها كحصنٍ للمجتمع.✍ الخاتمةالطلاق في الأردن ليس مجرد رقم في إحصائية، بل جرح مفتوح في جسد المجتمع.وإن لم نتحرك جميعًا — آباء وأمهات، علماء ومربين، ومحامين وقضاة — فسيكبر هذا الجرح حتى يصعب مداواته.فلنُعيد للأسرة مكانتها، وللحبّ قيمته، وللمسؤولية معناها، قبل أن نستيقظ على جيلٍ بلا دفء ولا استقرار.الطلاق في الأردن.. نزيفٌ صامت يهدد المجتمع والأسرة
مدار الساعة ـ











