أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين رياضة اخبار خفيفة ثقافة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

اللوزي يكتب: قَحْطُ السماء وجَفَافُ الوجدان


خميس خليفة اللوزي

اللوزي يكتب: قَحْطُ السماء وجَفَافُ الوجدان

مدار الساعة ـ

في تلك اللحظة التي اختنقت فيها الأرض من وطأة العطش، وشَخَصت عيون البشر إلى العلياء تستفتي رحمة الغيث، بقيت السماء صامتة صمتَ المعرفة. لم يكن الألم في احتباس السحاب فحسب، بل في خرس القلوب المُتكلِّسة التي رفعت الدعاء كعادةٍ آلية لا كـَإعلان توبةٍ مصيري، ورجاء بلا ذلَّة انكسار. وكأننا نستجدي الماء من مَظهَر الغيم، لا من قُدرة ربّ العالمين.

وفي سويعات ذاك اليوم القاحل، انبعث من زاوية أخرى من المدينة عواءُ لهوٍ صاخب، وضحكاتٌ تُبَرِّئ الغفلة. لم تكن المفارقة هنا بين موقعين مختلفين، بل بين مقامين متنافرين؛ أحدهما يستجير بالرحمة ويُقرُّ بذنبه، والآخر يُبارز العِبرة في ساحة الوَهم.

هذه المفارقة البليغة تفضح هَشاشة الإيمان حين يتحوَّل إلى فِعلٍ ظرفي، يُمارس لاستدعاء النفع لا إخلاصاً للعقيدة. نحن نُصلّي لأنّ قطرات السماء لم تهطل، لا لأنّ جفافَ الصدقِ قد أصابنا في العمق. نطلب الفيض الإلهي بأصواتنا بينما نُحَاصِر منابع الخير في نفوسنا. نُعلي النداء، لكنّ أثقال خطايانا هي التي تُشَوِّش على صدى الاستجابة في فضاء الوجود.

إنّ الله لا يُحارَب بسنّ السيف ونيران القتال، بل بـِبَطَرِ النفس وجهل الإنسان بحقيقة ضعفه. حين يستبيح المرء ما يُغضِب سلطان الكون، ثم يتساءل بـغرابة المُدَّعي لِـمَ ضَنَّت السماء علينا؟

بأيِّ منطقٍ يُفتَح بابُ العطاء لأمةٍ تجمعُ فوضى غفلتها وانتظام صلاتها في ميزان واحد؟ كيف نطلب سُقيا الأجساد ونحن نُمعِنُ في تَعطيش الأرواح؟

إنّ الحكمة الجوهرية للاستسقاء ليست انتظار انفراجة جويّة، بل تطهير التربة الروحية لاستقبال الإمداد. المطر لا ينزل من كيمياء السحب، بل من كسرة القلوب الصادقة التي تستوي على خشية الله. وما أوجعنا حين نرفع الأكفّ بـأجسادٍ مُنصاعة وقلوبٍ تلهثُ خلف مواعيد الدنيا، وحين يكون الاستغفار مجرد تعويذة بلا معنى!

يقول الله تعالى: “وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.”

الاستغفار ليس مُفردة تُنطَق، بل هو قرار وجودي يُصلِح مسار الحياة. أن تستغفر يعني أن تُقِرَّ بعجزك أمام الكمال المطلق، أن تُسقِط ادّعاء البراءة، وأن تُنظِّف طريقك من وباء الغرور والتساهل. إنه اليقين الراسخ بأنّ نَهر الرحمة لن يتدفَّق قبل أن تُغسَل دواخلنا بماء الإنابة.

في الحقيقة، السماء لا تبخل بالفيض، لكنها تنتظر أوعيةً تستحقه. فحين نُنَقّي ذواتنا، تُبارَك الأرضُ معنا. أما حين نُصرُّ على الازدواجية المَرَضية بين التعبد والتبذل، فإنّ القحط يصبح ضرورة تربوية عليا، كـسَوطٍ سماوي لإيقاظ الغافلين.

لقد عشنا طويلاً في زمن الـمَظاهر؛ زمن يتقدّم فيه الصوت على الصمت، والرسم على الروح، حتى باتت صلاة الاستسقاء مُنتَجاً إعلامياً أكثر من كونها ثورة توبة جماعية. يخرج الناس بـِعَدَسة الموثّق لا بـِنداوة الدموع، يتبادلون الصور لا المغفرة، وكأنّ استجلاب الرحمة مرهون بِـبَهاء المشهد لا بـِإخلاص النية.

ولو أدركنا بعمق، لوجدنا أن ماء الغيث المطلوب ليس هو مُبتغانا الأسمى. نحن نحتاج إلى مطرٍ يُنبت أشجار الطمأنينة في القلوب قبل أن يُنبت الزرع في الحقول، إلى سَيلٍ من الوضوح يطهرنا من الرياء، وإلى غيمةٍ من الإدراك تظلّل الأمة من لهيب النفاق الأجوف.

القضية ليست في غِياب المطر الذي نراه، بل في جَفاف اليقين الذي نحمله. فكلما تصلَّب القلب، تأخَّر الإمداد. وما نحتاجه اليوم ليس مجرد صلوات إضافية، بل مُصالحة جماعية شاملة مع الله. حين نصالح الله بصدق، ستمطر السماء قسراً، لأنّ الغيث لا يُستجدى بـِفَصاحة الكلمات، بل بـِقوة الأفعال النابعة من القلب. وإنّ الله، جلّ جلاله، لا يحرمنا فضله إلا حين نصبح نحن غبار الذنوب الذي يحجب شعاع نعمته.

مدار الساعة ـ