في كل موسم لإقرار الموازنة العامة، تتجدد الأصوات المطالبة برفع الرواتب وتحسين الأجور، وكأن الموازنة العامة تحولت لموسم للشعبوية الاقتصادية والسياسية، ينتظره «نواب ومحللون وخبراء» لإطلاق العنان لمطالب تبدو بظاهرها محقة، لكنها في جوهرها تعكس حالة من الانفصام في الخطاب العام، فاي انفصام هذا؟.
هؤلاء نفسهم من جهة، يطالبون «بخفض المديونية» وضبط الإنفاق وتقليص العجز المالي، ومن جهة أخرى، يرفعون شعار «زيادة الرواتب»، غير مدركين أو متجاهلين أن فاتورة الرواتب والدعم الحكومي للسلع الأساسية تستهلك ثلثي الموازنة العامة، وهو ما يترك مساحة محدودة جدا للإنفاق الرأسمالي أو لتحفيز النمو الاقتصادي، فعن اي موازنة يتم التحدث والنقاش فيها؟.الحكومة الحالية، رغم كل الانتقادات، رفعت بالفعل فاتورة الرواتب بما يقارب «274 مليون"دينار، وذلك لتغطية كلف التوظيف الجديدة والزيادات الطبيعية للعاملين والمتقاعدين، ما يعني أن جزءا من «مطالب تحسين» الدخل تحقق ضمن الممكن المالي والاقتصادي، الا ان البعض يريد ان يصور الدنيا على انها قمرة وربيع، ويريدون ان يشعروننا اننا في دولة نفطية غنية في كل الموارد.وهنا يبقى السؤال الأهم، هل يمكن الجمع بين خفض العجز وزيادة الإنفاق في الوقت نفسه؟ الإجابة المنطقية هي لا فالمعادلة المالية لا تحتمل الرغبات المتناقضة، ولا يمكن أن نبني اقتصادا متوازنا على أساس المزايدات والمطالبات الشعبوية التي تتجاهل الحقائق المالية الصلبة.إن المطلوب اليوم ليس رفع الرواتب بقرارات فورية غير مستدامة، بل رفع القيمة الحقيقية للدخل عبر تحفيز النمو، وتشجيع الاستثمار، وإصلاح سوق العمل، وتحسين كفاءة الإنفاق العام، فالموازنة ليست صندوق أمنيات، بل مرآة تعكس واقعنا الاقتصادي، ومن الحكمة أن نقرأها بعقل لا بعاطفة.العجب العجاب، يكمن في أن الجميع يعلم أن فاتورة «الرواتب الشهرية" للقطاع العام تبلغ ما يقارب 600 مليون دينار شهريا، أي ما يقارب 7 مليارات دينار سنويا، ومع ذلك، يسألون عن العجز ولماذا ترتفع المديونية، ثم يتهمون الدولة بالفساد، وهنا يطرح السؤال المهم، إذا كانت فاتورة الرواتب بهذا الحجم، فمن أين تأتي بقية المصاريف؟برأس كل شهر، تقوم الحكومة بصرف ما يقارب 600 مليون دينار رواتب للقطاع العام، أي 7 مليارات دينار سنويا، و إذا ما تم اقتطاع 7 مليارات دينار من 10.5 مليار دينار إيرادات محلية، يتبقى حوالي 3 مليار دينار لكافة النفقات الأخرى من صحة وتعليم وبنية تحتية وغيرها من الخدمات اليومية، والتي تقدر بحوالي 6 مليارات دينار.خلاصة القول، الحديث عن زيادة الرواتب وخفض العجز في الوقت نفسه أشبه بمحاولة السير في خط مستقيم على حبل مشدود فوق هوة مالية واسعة سيدفع ثمنها الجميع لاحقا، والمطلوب وعي لإعادة ترتيب الأولويات، وليس الانغماس في المزايدات والشعوبيات التي سيدفع ثمنها الشعب نفسه لاحقا، فالاقتصاد والشعبويات لا يلتقيان.الرواتب.. وموسم الشعبويات
مدار الساعة (الرأي الأردنية) ـ