مسودة قانون موازنة العام 2026 تشير إلى عجز مالي صارخ ، ليس مجرد رقم في جدول محاسبي، بل هو صرخة إنذار أخيرة لنموذج اقتصادي لم يعد قادراً على إعالة نفسه , لقد تحولت الموازنة من أداة تخطيط للتنمية إلى وثيقة لإدارة انكماش بطيء ومؤلم، حيث تهيمن ثقافة المنع و التقييد و الاستثناء.
بقراءة متأنية للمواد الأولى من المشروع نجد أن دائرة الموازنة العامة تحولت إلى الرقيب الأعظم، حيث تحتاج أبسط التحويلات المالية بين بنود الفصل الواحد إلى موافقة مديرها العام , هذه المركزية الخانقة تقتل المبادرة وتشلّ العمل الحكومي في المحافظات الطرفية , وبذات الوقت الذي يُمنع فيه مدير مدرسة من نقل مخصصات من بند القرطاسية إلى بند الصيانة، نجد أن مجلس الأمة على سبيل المثال مستثنى من هذه القيود! إنها رسالة واضحة: (هناك دولة للرقابة المالية وأخرى محصنة منها)موازنة تعلن الحرب على التوظيف فتجمّد التعيينات وتمنع استخدام مخصصات المشاريع الرأسمالية للمحافظات لتشغيل العاطلين، وهذا أشبه بعلاج بتر لقدم مجروحة, هذا المحور تحديداً يخفض الرقم الإحصائي للعجز الظاهري اليوم , ليُفاقم أزمة البطالة والفقر غداً.السؤال المحوري : كيف ندير هذا العجز؟! والحقيقة المرّة هي أننا لا نحتاج إلى إدارته، بل إلى اقتلاعه من جذوره, إدارة العجز هي مسكنات، والحل الجذري يكمن في الشجاعة الكافية بالمكاشفة أن النهج الاقتصادي الحالي هو نهج إدارة أزمة وليس نهج حلول لأزمة . وبما أن الفريق الاقتصادي مستميت في فرض النهج الاقتصادي الليبرالي , رغم نتائجه التي راكمت العجز المالي حتى اللحظة والتي لم تخرج عن مسكنات اقتصادية لتخفيف الأعراض بينما تتفاقم حالة المريض نحو الأسوأ , لماذا لا ينزل عن أعلى الشجرة ويتبنى نموذج اقتصادي هجين، يدمج بين قوة آلة السوق الليبرالية كما يحاول اثباته وقلب الاقتصاد التعاوني التضامني الإسلامي ؟!!* النموذج الهجين المقترح : النموذج التعاوني الاسلامي-الليبراليبدلاً من الاختيار العبثي بين نمط اقتصادي ليبرالي يزيد الغنى غنىً والفقير فقراً، ونموذج اشتراكي أثبت فشله في تحقيق الكفاءة، لماذا لا نحاول إيجاد توليفتنا الخاصة؟!1. في القطاع الزراعي: لماذا لا تتحول الجمعيات الزراعية إلى "تعاونيات إنتاجية مساهمة"؟! يمتلكها المزارعون، ويديرونها بمنطق السوق والربح، ولكن يتم إعادة استثمار جزء من الأرباح في مشاريع تنموية داخل القرية نفسها, بدلاً من انتظار دعم الدولة، يصبح المزارعون شركاء في سلسلة القيمة.2. في الطاقة: بدلاً من تحميل الموازنة أعباء دعم الكهرباء، لماذا لا نشجع قيام "تعاونيات طاقة شمسية" على مستوى الأحياء؟! يساهم السكان في تمويلها، وتُدار كشركة صغيرة، ويُباع الفائض للحكومة, نحن هنا نحول المواطن من عبء على الموازنة إلى شريك في إنتاج الثروة.3. في التمويل: يمكن إنشاء "بنوك تعاونية إقليمية" لا تهدف للربح الفاحش ولا تجعل المال نفسه هو السلعة لتجارتها ، بل لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة في محافظاتها, تكون مملوكة للمجتمع المحلي، مما يضمن أن تبقى الأموال في دائرة الاقتصاد المحلي , الأمر الذي يعني زيادة التدفق إلى البنوك التجارية الكبرى في الأردن .*كيف تساهم هذه التوليفة في معالجة العجز؟!1- زيادة الإيرادات: آلاف المشاريع التعاونية الصغيرة ستوسع القاعدة الضريبية بشكل حقيقي وعادل، دون الحاجة إلى رفع أسعار الضرائب على القطاع الموجود.2- تقليل النفقات: عندما تتحمل التعاونيات جزءاً من أعباء الخدمات (كالطاقة والزراعة)، تتحرر موازنة الدولة للإنفاق على القطاعات السيادية الحقيقية مثل الصحة والتعليم وجودته .3- خفض البطالة: نموذج التعاونيات يستوعب أعداداً أكبر من الوظائف برأس مال أقل، لأنه يعتمد على المشاركة والملكية الجماعية.العقبة الحقيقية أمام هذه الرؤية ليست اقتصادية، بل هي إرادة سياسية , النخب الليبرالية التقليدية قد ترى في هذا تهديداً لسيطرتها على الاقتصاد، والنخب التقليدية قد ترى فيه خطراً على شبكات المحسوبية والريع , كل هذا يتزامن مع غياب الثقة المجتمعية والتي تحتاج إلى معالجة جذرية .*وهنا دعونا نتوقف قليلاً بالتساؤل عن المنظومة الإسلامية المغيّبة عن أي خطط واستراتيجيات اقتصادية في الأردن ؟!في خضم البحث الاقتصادي عن نموذج ناجح ، يظهر سؤال جوهري من عمق هويتنا: أين المنظومة الإسلامية من هذه المعادلة؟!لماذا تُختزل هذه المنظومة الشاملة في قضايا فرعية، بينما تمتلك كنوزاً من الحلول الاقتصادية التي عجزت النماذج الوافدة عن مجاراتها؟! أليست الزكاة نظاماً ضريبياً فريداً يجمع بين العدالة الاجتماعية والتحفيز الاقتصادي؟! أليس تحريم الربا حماية للاقتصاد من النمو الوهمي والأزمات المالية؟! أليست فلسفة الوقف نموذجاً رائداً للتمويل المجتمعي المستدام؟! *لو طُبِّقت المنظومة الإسلامية في الموازنة، كيف ستبدو؟!المنظومة الإسلامية ليست مجرد "زكاة وصدقات"، بل هي فلسفة اقتصادية كاملة , اليك عزيزي القارئ و صانع القرار كيف كانت ستغير موازنة 2026 من جذورها: أولا: في جانب الإيرادات نجد التدفقات المالية من انتاج الأرض والعقار والمصنع والتجارة بدلاً من الضرائب الخانقة على الأرض نفسها وعلى المصنع نفسه وعلى المنشأة التجارية نفسها , فنجد :- الزكاة: لو فرضت بشكل مؤسسي على الأموال غير الظاهرة (الأسهم، الاستثمارات، العقارات التجارية, دخل صناعي ..الخ) لكانت كافية لسد جزء كبير من العجز.- موارد الدولة الطبيعية (النفط، الغاز، المعادن..الخ ) هي للمواطنين يقوم على استثمارها أصحاب الخبرة والمال ولهم حق الربح , ولكن يجب أن يعود ريعها على الشعب ككل، لا أن تحتكره النخب.- الخراج: ضريبة عادلة على الأرض تتناسب مع إنتاجيتها، وليس مع ملكيتها.النتيجة: كانت لتختفى مواد مثل "منع النقل بين البنود" لأن الخزينة ستكون ممتلئة بأموال حقيقية وعادلة.ثانيا: في جانب النفقات نجد أنّ الأولويات مختلفة جذرياً, وهذا يتطلب : - إلغاء المواد مثل رقم (١) (استثناءات مجلس الأمة) لأن مفهوم "الولاء المطلق لله الذي وكّل هذه الفئة ( الحكومة وغيرها ) بأمانة إدارة الموارد المالية للدولة حسب منفعة هذا الشعب وتحقيق الأمانة من خلال رفاهيته واغتنائه عن السؤال والفقر قدر الإمكان , يلغي مثل هذه الاستثناءات , ويخضعها للمساءلة والمحاسبة الذي نسميه اليوم ( دولة القانون ) .- الشفافية المطلقة : كانت موازنة الدولة الإسلامية تعلن في المساجد وفي الأسواق قبل رفعها الى مجلس الشورى ، ليعرف كل فرد أين تذهب أمواله , ويحق لأي مواطن في الدولة محاكمة أيٍ كان منصبه أمام القضاء ان وجد درهم واحد ذهب الى غير مكانه .- الإنفاق على القطاعات الإنتاجية: الإسلام يحث على "الإعمار" (﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾) حيث الأولوية للزراعة والصناعة والتجارة وهي محركات النمو الحقيقية لاقتصاد حقيقي لا وهمي ، وهي غير مخصصة لرواتب بيروقراطية متضخمة.ثالثا : في مفهوم التوظيف والعمل نجد أن كرامة الإنسان أولاً : وعليه :- إلغاء تجميد أجور العمال: النبي ﷺ قال : ( أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ) , النظام الاقتصادي الإسلامي يضمن حق العامل في أجر عادل، بل ويجعله شريكاً في الربح (المضاربة والمزارعة).- التوظيف ليس "عبئاً" بل هو استثمار في طاقة الشعب , لا بل البطالة في الإسلام تعتبر من "الفساد في الأرض" الذي يجب محاربته.*يبقى السؤال لماذا هذا الحل الإسلامي غير مطروح اليوم؟!من خلال التتبع نجد الأسباب تنحصر فيما يلي : 1- الخطاب الإسلامي تقوقع في "الفتاوى الفردية" وغاب عنه "التخطيط الاستراتيجي" للدولة.2- النخب المختلفة تخشى من قوة النظام الاقتصادي الإسلامي لأنه يهدم أركان اقتصاد الريع والمحسوبية , فنظام الزكاة بمفهومه الشمولي والواسع لا الفردي مع المنع الربوي يقلصان ثروات النخب المفاجئة. 3 - تصّر النخب على حصر الإسلام في المعارضة السياسية أكثر من كونه خبيراً اقتصادياً يقدم حلولاً عملية.في النهاية نحن أمام خيارين : الأول : الخيار الحالي (موازنة 2026): إدارة العجز عبر المزيد من القيود والاستثناءات والديون.الثاني : الاقتصاد الإسلامي أو لنخفف من المصطلح ولنقل الاقتصاد التعاوني التضامني : اقتصاد منتج قائم على العدل والشفافية، حيث تكون الموازنة أداة لإعمار الدولة ، لا لإدارة العجز و الفقر.فالسؤال ليس(أين المنظومة الإسلامية؟! ) بل (لماذا صُمَّت الآذان عن سماعها، وأُبعدت عن دائرة الحلول رغم أنها جزء من هوية الشعب الأردني وضميره؟! )النظام الاقتصادي الإسلامي ليس حلاً مثالياً خالياً من التحديات، ولكنه يقدم بديلاً أخلاقياً وعملياً يستحق أن يكون على طاولة النقاش، خاصة ونحن نرى فشل وعجز النماذج الوافدة واحدة تلو الأخرى.فلتكن الموازنة موازنة "إعمار" لا موازنة "إدارة العجز والفقر " , فموازنة ٢٠٢٦ برأي الشخصي هي وثيقة لإدارة العجز والفقر لا لحلّه , لكن الأردن، بتاريخه الإسلامي وعمق رسالته الاقتصادية ، مؤهل لأن يقدم للعالم نموذجاً فريداً: اقتصاد السوق الإنساني.فالخيار ليس بين الليبرالية والاشتراكية ولكن الخيار هو بين:الاستمرار في اقتصاد الريع الذي ينتج عجزاً وفساداً واستثناءات ,أو تبني اقتصاد الإعمار القائم على العدل والشفافية والمشاركة.النموذج المقترح ليس حلماً مثالياً، لكنه بديل حقيقي عندما نفقد الثقة في كل النماذج الوافدة , آن الأوان أن نعود إلى هويتنا لنستمد منها حلولاً لمشاكل عصرنا.التل يكتب: موازنة 2026.. متى سننتقل من إدارة الأزمة الى حلٍ لها؟!
مدار الساعة ـ