لقد تمخضت الحرب في السودان حتى الآن عما يقارب مائة وخمسين ألف (150,000) قتيل، وأربعة عشر (14) مليون نازح ناهيك عن الخراب الذي أصاب مؤسسات البلاد وبنيتها التحتية، الأمر الذي أوصلها إلى حافة المجاعة وفق بيانات الأمم المتحدة.
وبسقوط "الفاشر" بيد قوات الدعم السريع وارتكابها لفظائع ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وبطرح الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات العربية المتحدة، مصر) لهدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر تعقبها مباحثات سياسية بين الأطراف المعنية تتبلور المأساة السودانية، ويُعاد طرح السؤال الكبير: العقدة السودانية إلى أين؟! ولتفكيك هذه العقدة، فلابدّ أن نلاحظ ما يلي: أولاً: أنّ الجيش السوداني يُمثل الشعب السوداني بشكل عام ويحظى بالشرعية في حربه ضد قوات الدعم السريع، وهذا ما يشهد به العالم ويعترف به عبر مؤسساته المختلفة، والذي اتضح أخيراً من خلال رفض الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لمبادرة "تأسيس" والحكومة الموازية في "نيالا" التي شكلتها قوات الدعم السريع والجهات المدنية الداعمة لها. ثانياً: أنّ الجيش السوداني يسيطر الآن واقعياً على ثلاثة أرباع (¾) مساحة السودان أيّ كل الولايات السودانية باستثناء ولاية دارفور وبعض مناطق في ولاية كردفان، والواقع أنّ الجيش السوداني استطاع في الأشهر الأخيرة طرد قوات الدعم السريع من العاصمة ومعظم مناطق السودان باستثناء الغرب (دارفور). ثالثاً: أنّ عدم حسم المعركة نهائياً لصالح الشرعية السودانية المتمثلة في الجيش السوداني يعود إلى الإسناد الكبير الذي يتلقاه الدعم السريع من عدة دول (يصل إلى 7 دول) معظمها إقليمية لها مصالح مُعيّنة في السودان وطامعة في خيراته وبالذات الذهب واليورانيوم، كما أنه قد يعود إلى عدم تقديم الدعم الكامل للشرعية السودانية من قبل بعض الدول الإقليمية المناصرة لها لأسباب سياسية معينة خاصة بها. رابعاً: تأرجح مواقف بعض الدول الكبرى المؤثرة في الوضع السوداني كموقف الولايات المتحدة الشريكة في الرباعية والتي لا تتخذ موقفاً حاسماً إلى جانب الشرعية السودانية، وكموقف روسيا التي تأخذ في الاعتبار تواجد قوات "فاجنر" الروسية الخاصة بشكل أو بآخر إلى جانب قوات الدعم السريع، وبالذات في الفترة السابقة. خامساً: غياب الموقف العربي الفاعل والمؤثر. صحيح أنّ الموقف العربي سياسياً هو مع الشرعية السودانية المتمثلة في الجيش السوداني (باستثناءَات محدودة جداً ولكنها مهمة)، ولكن الدول العربية عبر مؤسسة الجامعة العربية أو غيرها لا تتخذ أية مواقف ملموسة مؤثرة تؤدي إلى حسم الأمور في السودان. في ضوء التحليل السابق لمُجمل الأوضاع السودانية يمكننا الخلوص إلى ما يلي: أولاً: من غير المرجح أن يتم إحراز نصر عسكري حاسم لأيّ من الطرفين: الجيش السوداني أو قوات الدعم السريع في المستقبل المنظور. ثانياً: من المستبعد تغيير التحالفات الإقليمية والدولية لصالح أيّ من الطرفين، وذلك بسبب عدم توفر أية عوامل موضوعية تدفع إلى ذلك. ثالثاً: استمرار معاناة الشعب السوداني وبصورة كبيرة من الأوضاع المأساوية القائمة بسبب ظروف الحرب. رابعاً: من غير الممكن تقسيم السودان وإعلان دولة جديدة (كأن تُعلن دولة مستقلة من قبل الدعم السريع في دارفور مثلاً)، وذلك بالنظر إلى احتمالية الرفض المُطلق لمثل هذا الاستقلال: محلياً، وإقليمياً، ودولياً، وبخاصة أن قوات الدعم السريع وتحالف "تأسيس" وحكومتها لا يتحدثون عن "الانفصال" في طروحاتهم، وأدبياتهم. وفي المحصلة، وإذا تجاوزنا الظروف الحالية بكل تعقيداتها فإنّ من المرجح أن ينتصر الشعب السوداني في النهاية، وأن يحافظ على وحدته الترابية، وبخاصة إذا أخذنا بالاعتبار أنّ الطرف الآخر يفتقر إلى الشرعية، وأنّ أسباب قوته قابلة للنفاذ أو التقلص لأسباب موضوعية بحتة، وإنّ غداً لناظره قريب!بطاح يكتب: 'العقدة السودانية'.. إلى أين؟
مدار الساعة ـ