أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين رياضة اخبار خفيفة ثقافة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

قرقودة تكتب: حينَ يَصمُتُ المَنصِبُ ويَتكلَّمُ الضَّميرُ.. تأمُّلاتٌ في مَسيرةِ دَولةِ عَبدِ الرَّؤوفِ الرَّوابدةِ


تغريد جميل قرقودة

قرقودة تكتب: حينَ يَصمُتُ المَنصِبُ ويَتكلَّمُ الضَّميرُ.. تأمُّلاتٌ في مَسيرةِ دَولةِ عَبدِ الرَّؤوفِ الرَّوابدةِ

مدار الساعة ـ

في زمنٍ تتكاثر فيه الأصواتُ وتتناقصُ فيه المواقفُ، تبقى بعضُ الشخصيّات تمشي على خيطٍ دقيقٍ بين العاصفة والاتّزان، بين السياسة والأخلاق، بين الدولة والإنسان.

وحين تُذكَر عبارة «رجل دولة» في معناها الأصيل، تقفز إلى الذاكرة صورةُ رجلٍ يختصر التجربة الأردنية في عنفوانها واتزانها؛ رجلٍ لم يكن عابرًا في تاريخ الحكومات، بل شاهدًا على تحوّلات وطنٍ بأكمله.

إنّه دولة عبد الرؤوف الروابدة… رجلُ العزمِ الذي حمل الأردنَّ في قلبه؛ لا في جيبه، وترك في ذاكرة الإدارة الأردنية بصمةً لا تزول، وأسلوبًا يدلّ على أنَّ الحكمة ليست خيارًا، بل ضرورةٌ حين يكون الوطن في الميدان.

وُلِد دولة عبد الرؤوف الروابدة عام 1939 في بلدة الصريح بمحافظة إربد، تلك البلدةُ التي أنجبت رجالًا حملوا القيمَ والبساطةَ والصدقَ عنوانًا لهم. هناك، في بيئةٍ أردنيةٍ محافظة، تبلورت ملامحُ الطفلِ الهادئِ الطموحِ الذي سيغدو لاحقًا واحدًا من أبرز رجالات الأردن الحديث.

تلقّى تعليمَهُ الأوّليَّ في مدارس إربد، ثم أكمل دراستَهُ الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث حصل على درجة البكالوريوس في الصيدلة عام 1962، وكان من المتفوّقين الذين جمعوا بين الدقّة العلميّة والوعي الاجتماعي المبكّر.

عاد بعدها إلى الأردن حامِلًا فكرَه العلميَّ وروحَه الوطنية، فدخل معتركَ الحياة العملية ليبدأ مسارًا من البذل المتواصل في مجالاتٍ متنوّعة. تدرّج في العمل العام حتى غدا نموذجًا للمسؤول الذي لا تُغريه المناصبُ بقدر ما تُلزمه الرسالة.

تقلّد دولة الروابدة خلال مسيرته الطويلة عددًا كبيرًا من المناصب الرفيعة التي جعلت منه أحدَ أعمدة الإدارة والسياسة الأردنية.

فقد شغل منصب أمين عمّان الكبرى، وكان له دورٌ بارز في تطوير العاصمة وتنظيم عمرانها بما يليق بمدينةٍ تتّسع لكل أبناء الوطن.

كما تولّى حقائب وزارية متعدّدة، منها: وزارة الأشغال العامة والإسكان، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الصحة، ووزارة النقل، مجسّدًا بذلك صورة الوزير الذي لا يكتفي بالقرارات، بل ينزل إلى الميدان ويقيس أثر السياسات في حياة الناس.

وفي عام 1999، كلّفه جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين بتشكيل الحكومة الأردنية رقم (84)، لتكون أول حكومةٍ في عهد جلالته، وهو تكليفٌ يعبّر عن الثقة بقدرة الرجل على إدارة مرحلةٍ دقيقةٍ من تاريخ الأردن.

وخلال فترة رئاسته القصيرة نسبيًّا، لكنها الغنية بالقرارات والإصلاحات، سعى دولة الروابدة إلى تعزيز الانتماء الوطني، وتقوية مؤسسات الدولة، وتحسين الأداء الإداري في مواجهة تحدّياتٍ إقليميةٍ واقتصاديةٍ صعبة.

لم يبتعد بعدها عن الخدمة العامة، بل واصل مسيرتَه في مواقع مختلفة؛ فقد شغل منصب رئيس مجلس الأعيان، وكان نائبًا في مجلس النواب لعدة دورات، فمثّل منطقته ووطنه بجرأة الرأي وصدق الموقف.

لم يكن صوته ناعمًا ولا مجاملًا، بل واضحًا حدّ الإزعاج أحيانًا، لأنّه كان يرى أن قول الحقيقة واجبٌ، ولو لم يُرضِ الجميع.

وإلى جانب مسيرته السياسية، ترك دولة عبد الرؤوف الروابدة أثرًا فكريًا وأدبيًا مهمًّا، فهو كاتبٌ ومفكّرٌ يؤمن بأنّ الفكرة أساس الفعل، وأنّ القائد الذي لا يكتب لا يفكّر.

من مؤلفاته:

«الديمقراطية بين النظرية والتطبيق»،

«الانتخابات بين النظرية والتطبيق»،

«التربية والمستقبل – نظرة أردنية»،

«هكذا أفكّر»،

«معجم العشائر الأردنية »

«الوجيز في عالم الدواء »

«علم الصيدلة لمساعدي الصيادلة»

« علم الجراثيم لمساعدي الصيادلة»

« علم الفسيولوجي لمساعدي الصيادلة»

و«في النهاية».

وهي كتبٌ تعكس رؤيته العميقة لدور الدولة والمجتمع والتعليم في بناء الإنسان القادر على مواجهة المستقبل.

لقد كان يؤمن بأنّ الديمقراطية ليست شعارًا يُرفع، بل ممارسةٌ تحتاج إلى وعيٍ وثقافةٍ وتربية.

لم يكن الروابدة سياسيًا تقليديًا، بل مفكرًا يرى أنّ الدولة كائنٌ حيٌّ يحتاج إلى تغذيةٍ فكريةٍ مستمرة، وأنّ الإصلاح يبدأ من العقول قبل القوانين.

ولذلك، ظلّ خطابه السياسي مرتبطًا بالهوية الوطنية، والإصلاح المتدرّج، والدفاع عن ثوابت الدولة الأردنية، دون أن ينزلق إلى المزايدات أو الخطابات الشعبوية.

يُعرف عن دولة الروابدة أنه رجلٌ صريحٌ لا يختبئ خلف الكلمات، يواجه الأسئلة الصعبة بابتسامةٍ فيها من الذكاء بقدر ما فيها من الثقة.

كثيرون اختلفوا معه، لكن قليلين أنكروا عمق تجربته وصلابة موقفه، لأنّ الرجل لم يكن يبحث عن الشعبية، بل عن الصواب.

لقد كان يرى في الأردن مشروعًا مستمرًّا لا ينتهي بتغيير الحكومات أو تبدّل الظروف، بل وطنًا يُعاد بناؤه كل يومٍ بالإخلاص والمعرفة والانتماء.

وهكذا ظلّ صوته حاضرًا في الحياة العامة، محاورًا ناقدًا، ومؤمنًا بأنّ خدمة الدولة لا تنتهي بترك المنصب، بل تستمرّ بضميرٍ لا يعرف التقاعد.

إنّ الحديث عن دولة عبد الرؤوف الروابدة ليس استعادةً لسيرة رجلٍ مرّ في سجلّ الحكومات فحسب، بل تأمّلٌ في تجربة وطنٍ تشكّل من رجالٍ آمنوا بأنّ الدولة أكبر من الأشخاص، وأنّ التاريخ لا يُكتب بالأقوال بل بالأفعال.

في مسيرته نقرأ معنى الثبات في زمن التقلّب، والصدق في زمن المجاملة، والوفاء في زمن المصالح.

لقد مضى الرجل في دربه حاملًا راية الأردن على كتفه؛ يختلف معه البعض ويتّفق معه آخرون، لكنهم جميعًا يجمعون على أنه من طراز الرجال الذين يصعب تكرارهم: صلبٌ في موقفه، واسعُ الفكر، عميقُ الإيمان بالوطن والملك والإنسان.

وهكذا يبقى الروابدة شاهدًا على زمنٍ كان فيه للرجولة معنى، وللمسؤولية قداسة، وللصراحة ثمن.

رجلٌ لم يُكتب اسمُه على لافتةٍ فقط، بل نُقِش في ذاكرة وطنٍ لا ينسى من خدمه بصدقٍ وجرأةٍ وإخلاص.

مدار الساعة ـ