هل يمكن للشرّ أن يكون تافهًا؟هل يمكن أن يظهر لا من العنف ولا من الحقد، بل من غياب التفكير ذاته؟
هذا هو السؤال الذي صدم حنّة آرندت وهي تراقب أيخمان في قفص المحاكمة.لم ترَ أمامها شيطانًا ولا عقلًا مظلمًا،رأت فراغًا.إنسانًا يعيش داخل قوالب جاهزة، موظّفًا يكرّر ما يُملى عليه،ويحتمي بجملة واحدة: “كنت أنفّذ الأوامر.”وهنا بدأ السؤال الفلسفي الأوسع:كيف يتحوّل الإنسان إلى أداة؟فالشرّ لا يبدأ دائمًا من الكراهية، بل من لحظة يتخلى فيها الإنسان عن التفكير، فيتحوّل إلى أداة تعمل بلا وعي.فالأخطر ليس الفرد الاستثنائي الذي يصنع الشر، بل العادي الذي يتوقف عن مساءلة نفسه. تفاهة الشر، في معناها العميق، ليست تبريرًا ولا تقليلًا من فظاعة الجريمة،إنها توصيف لطبيعة الفاعل:ذلك الذي لا يُفكّر،لا يرى،ولا يتخيّل أثر يده على وجود الآخر.التجارب النفسية وأهمها تجربة ميلغرام في علم النفس الاجتماعي أعادت تأكيد هذا المعنى،حين كشفت أن الكثير من الناس قد يُلحقون الأذى بالآخرين فقط لأن شخصًا ذا سلطة أمرهم بذلك،حتى وإن تعارض الفعل مع ضميرهم.بهذا المعنى، يصبح الشرّ فعلًا يولد من تعليق العقل لا من عمق الظلام، ومن قبول الإنسان بأن يتخلى عن مسؤوليته الأخلاقية لصالح أوامر جاهزةويبقى السؤال معلّقًا فوق رؤوسناهل نعرف أنفسنا حقًا، أم أننا نعيش مطمئنين إلى مبادئ لم تُختبر بعد؟وهل يمكن أن ندخل منطقة الشر دون أن نشعر، فنمارس ما نخشاه، ونصبح ما نرفضه، دون أن ندرك أن الخطوة الأولى كانت فقط غيابًا للتفكير!!