أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

العلاونة يكتب: تحولات العالم بين السياسة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي


عبدالله فارس العلاونه
مستشار بريادة الأعمال والتمكين للشباب

العلاونة يكتب: تحولات العالم بين السياسة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي

عبدالله فارس العلاونه
عبدالله فارس العلاونه
مستشار بريادة الأعمال والتمكين للشباب
مدار الساعة ـ

يشهد العالم في السنوات الأخيرة مرحلةً غير مسبوقة من التحولات الكبرى، تتقاطع فيها السياسة بالتكنولوجيا، وتتفاعل فيها المعرفة بالسلطة، في مشهدٍ يعيد رسم ملامح المستقبل الإنساني بأكمله. لم يعد الصراع بين الدول يدور حول الأراضي أو الموارد كما في الماضي، بل حول من يمتلك المعلومة، ومن يملك القدرة على توظيف التكنولوجيا وتطويع الذكاء الاصطناعي لخدمة مصالحه الاستراتيجية. وفي ظل هذا التغير الجذري، أصبحت الحدود بين الاقتصاد والسياسة والعلم أكثر ضبابية من أي وقت مضى، حتى غدت القرارات السياسية رهينة لتطورات تقنية، وأصبح الابتكار العلمي أداةً من أدوات القوة الجيوسياسية.

لقد تراجع مفهوم القوة التقليدي القائم على الجيوش والأسلحة أمام مفهومٍ جديدٍ للقوة قائمٍ على المعرفة والبيانات والقدرة على التحليل والتأثير. فالدول التي تدير البيانات وتفهم أنماطها وتوظفها باتت أكثر تأثيرًا من تلك التي تمتلك الثروات الطبيعية وحدها. وهكذا تحولت موازين القوى العالمية من السيطرة على الأرض إلى السيطرة على المعلومة، ومن احتكار الموارد إلى احتكار الخوارزميات. هذه التحولات تضع النظام الدولي أمام اختبار حقيقي، حيث تتغير طبيعة النفوذ وأساليب إدارة الأزمات، وتتوسع مجالات الصراع لتشمل الفضاء السيبراني والعقول البشرية في آنٍ واحد.

إن المتغيرات الجيوسياسية اليوم، وخاصة في مناطق التوتر مثل الشرق الأوسط، لم تعد مسألة سياسية بحتة، بل صارت ذات أبعادٍ تكنولوجية واقتصادية وإنسانية عميقة. فالصراع على النفوذ لم يعد مقصورًا على الجغرافيا، بل أصبح صراعًا على البيانات، والطاقة، والقدرة على التطوير والابتكار. التكنولوجيا باتت هي العامل الحاسم في تحقيق الاستقرار أو زعزعته، والذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا من منظومة الأمن القومي لأي دولة، إذ لم يعد الأمن يعني حماية الحدود المادية فقط، بل حماية الفضاء الرقمي والعقول من التضليل والتأثير الخارجي.

وفي قلب هذا التحول الجذري، تواجه الديمقراطيات في العالم أزمة غير مسبوقة في الشرعية والثقة. فصعود التيارات الشعبوية وشخصياتٍ مثيرة للجدل في عدد من الدول الكبرى كشف هشاشة الأنظمة الديمقراطية أمام الموجة الجديدة من الإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي. لم تعد الحملات الانتخابية تقوم على المناظرات أو البرامج السياسية فحسب، بل أصبحت ساحاتها الأساسية هي شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تتحكم الخوارزميات في تدفق المعلومات وتوجيه الرأي العام. هذه البيئة الرقمية خلقت نوعًا جديدًا من السلطة غير المرئية، إذ أصبح بإمكان التقنيات الحديثة التأثير في المزاج الشعبي وصناعة التوجهات السياسية دون وعيٍ مباشرٍ من الجماهير.

من هنا تبرز المعضلة الكبرى: كيف يمكن حماية الإرادة الشعبية في عصرٍ أصبحت فيه المعلومة تُفصّل وفقًا لرغبات المستخدم، لا وفقًا للحقيقة؟ إن الديمقراطية التي كانت تُبنى على الحوار والوعي الجمعي باتت تواجه تحديًا حقيقيًا في عصر “الفقاعة المعلوماتية”، حيث يعيش كل فرد داخل عالمه الرقمي المغلق الذي لا يرى خارجه إلا ما تؤكده خوارزميات اهتماماته. وبهذا، تضعف القدرة على التفكير النقدي الجماعي، وتتراجع الثقافة العامة لصالح الإثارة السريعة والمعلومة السطحية، مما يجعل من الضروري إعادة النظر في مفهوم الديمقراطية ذاته ليواكب التحول التكنولوجي الجديد.

أما الذكاء الاصطناعي، فهو بلا شك محور هذا التحول وأحد أهم القوى الدافعة له. لقد تجاوز الذكاء الاصطناعي كونه أداةً للحوسبة أو التحليل، ليصبح منظومةً معرفية قادرة على اتخاذ قراراتٍ مؤثرة في السياسة والاقتصاد والإعلام. إننا نعيش اليوم زمن “الذكاء الغريب”، كما يصفه بعض المفكرين، لأنه يختلف عن ذكاء الإنسان في المنطق والغاية وطريقة التفكير. هو لا يشعر، لكنه يحلل. لا يحكم بالضمير، بل بالاحتمال. وهذه المفارقة تضع الإنسانية أمام سؤالٍ أخلاقيٍ وفلسفيٍ عميق: هل يمكن أن يُدار العالم بخوارزميات لا تمتلك حسًّا إنسانيًا أو قيمًا أخلاقية؟

لقد أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على إنتاج النصوص والصور والفيديوهات بشكلٍ يصعب تمييزه عن الواقع، الأمر الذي يهدد جوهر الحقيقة ذاته. ففي عالمٍ يمكن فيه لأي آلة أن تُنتج واقعًا مزيفًا بدقةٍ متناهية، كيف يمكن للمجتمعات أن تميّز بين الصدق والزيف؟ وكيف يمكن للديمقراطيات أن تحافظ على نزاهة إعلامها وصحة قراراتها السياسية؟ هذه الأسئلة ليست نظرية، بل عملية وملحّة، إذ نشهد بالفعل تأثيرات الذكاء الاصطناعي في الانتخابات، وفي الأسواق المالية، وفي الرأي العام العالمي.

وما بين السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا، تبرز الحاجة إلى صياغة نموذج جديد للحكم الرشيد يقوم على التوازن بين التقدم التقني والمسؤولية الإنسانية. فالعالم لا يحتاج إلى المزيد من الابتكار بقدر ما يحتاج إلى منظومة قيمية وأخلاقية تحكم هذا الابتكار. إن إدماج مبادئ الحوكمة والشفافية والاستدامة في التكنولوجيا والسياسة لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجودية لضمان استمرارية المجتمعات. فالتنمية الحقيقية لا تتحقق عبر سرعة التقدم فحسب، بل عبر قدرتنا على جعل هذا التقدم عادلاً، وآمنًا، ومتاحًا للجميع.

لقد أثبتت التجارب الحديثة أن من يمتلك الذكاء الاصطناعي دون وعيٍ أخلاقي سيقود العالم نحو فوضى رقمية غير مسبوقة، بينما من يمتلك الرؤية الإنسانية سيجعل من التكنولوجيا أداةً للتحرر والنهضة. لذا فإن التحدي الحقيقي في هذا العصر ليس في سباق الآلات، بل في الحفاظ على إنسانيتنا. إن المستقبل لن يكون للأقوى تقنيًا فحسب، بل للأكثر وعيًا، والأكثر قدرةً على استخدام التكنولوجيا لخدمة الإنسان لا لاستعباده.

إن ما يشهده العالم اليوم ليس مجرد تطورٍ علمي، بل تحوّلٌ حضاري يفرض علينا إعادة التفكير في كل ما نعرفه عن السلطة، والمعرفة، والهوية. وإذا كان الماضي قد بُني على الثورة الصناعية، فإن المستقبل يُبنى الآن على الثورة الرقمية والعقل الاصطناعي. لكن الفرق الجوهري أن الثورة الحالية لا تغيّر أدوات الإنسان فحسب، بل تغيّر الإنسان نفسه، وتعيد تشكيل وعيه وعلاقته بالعالم.

في النهاية، يمكن القول إننا نقف على أعتاب مرحلة جديدة من التاريخ البشري، حيث يلتقي الفكر بالآلة، والعلم بالسلطة، والسياسة بالذكاء الاصطناعي، في مشهدٍ معقّد لا مكان فيه للجمود أو الانعزال. ومن هنا تبرز مسؤولية القادة والمفكرين وصناع القرار في أن يجعلوا من هذا التحول فرصةً للتطور الإنساني لا سببًا للتنازع أو التفكك. فالتاريخ لن يذكر من امتلك التكنولوجيا، بل من استخدمها لصناعة مستقبلٍ أكثر عدلاً وإنسانية.

مدار الساعة ـ