شهدت المنطقة العربية حدثًا استراتيجيًا لافتًا تمثل في توقيع اتفاقية عسكرية جديدة بين المملكة العربية السعودية وباكستان. جاء هذا الاتفاق عقب الاعتداء الإسرائيلي الأخير، في توقيت حساس كشف عن هشاشة الضمانات الأمنية الأمريكية رغم وجود قاعدة عسكرية ضخمة لواشنطن في قطر. ولأن الاتفاق جرى دون علم مباشر للولايات المتحدة، فقد حمل رسائل واضحة عن توجهات السياسة السعودية الجديدة، التي تعكس حرص الرياض على تنويع خياراتها الاستراتيجية وبناء تحالفات متعددة.
لفهم دلالات هذا الاتفاق، لا بد من العودة إلى منتصف الثمانينات حينما طلبت المملكة من الولايات المتحدة تزويدها بصواريخ متطورة، فقوبل الطلب بالرفض. عندها لجأت الرياض إلى خيار بديل غير متوقع، فعقدت صفقة مع الصين للحصول على صواريخ “رياح الشرق” (CSS-2). أثارت هذه الخطوة صدمة في واشنطن، وأدت إلى أزمة دبلوماسية بلغت ذروتها بطرد السفير الأمريكي من الرياض. يومها أثبتت المملكة أنها قادرة على تجاوز الممانعة الأمريكية إذا تعلق الأمر بأمنها القومي.اليوم يتكرر المشهد بصورة مختلفة. فبعد أن أثبتت الاعتداءات الأخيرة أن الوجود العسكري الأمريكي لا يكفي لردع المخاطر، عادت الرياض لتؤكد أن أمنها لا يمكن أن يكون رهينة لقرار واشنطن وحدها. وجاء الاتفاق مع باكستان –الدولة ذات القدرات النووية والخبرة الطويلة في التعاون العسكري مع السعودية– ليجسد هذا التوجه، ويفتح الباب أمام شراكات أكثر تنوعًا ومرونة.الاعتداء الإسرائيلي الأخير لم يكن بعيدًا عن حسابات واشنطن، إذ تؤكد تقارير أن الإدارة الأمريكية الحالية كانت على علم مسبق بالضربة. لكنها لم تُقدّر بما يكفي انعكاساتها على استقرار المنطقة ولا على مواقف دول الخليج. هذا الإخفاق أوقعها في حرج استراتيجي مزدوج: فمن جهة بدت عاجزة عن ضبط حليفتها الإسرائيلية، ومن جهة أخرى أظهرت نفسها وكأنها تتغاضى عن تهديد مباشر لشركائها التقليديين.ولو كانت هناك إدارة أمريكية غير الحالية، أكثر إدراكًا لمصالحها الاستراتيجية مع حلفائها، لما سمحت لإسرائيل بالمضي في تلك الضربة. غير أن الإدارة القائمة اختارت التماهي مع السياسات الإسرائيلية على حساب صورتها الإقليمية، الأمر الذي يعزز الشكوك في التزاماتها ويدفع دول المنطقة إلى البحث عن بدائل تضمن أمنها بعيدًا عن الارتهان لقرار واشنطن وحدها.ما يجري اليوم ليس مجرد تعاون عسكري ثنائي، بل جزء من استراتيجية سعودية أوسع لإعادة صياغة النظام الإقليمي. تقوم هذه الاستراتيجية على تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، والانفتاح على شبكة من التحالفات تمتد من العمق الإسلامي مع باكستان إلى القوى الصاعدة في آسيا. الهدف هو بناء توازن مرن يضمن أمن المملكة ويمنحها استقلالية في القرار.الخطوات السعودية الأخيرة تشير إلى ملامح “معادلة أمنية مستقلة” تتلخص في تنويع مصادر القوة والتحالفات من باكستان إلى شركاء محتملين آخرين، وتعزيز العمق الإسلامي عبر التعاون مع إسلام أباد بما يحمله من رمزية استراتيجية، واستثمار التعددية القطبية لكسب مرونة في إدارة الملفات الإقليمية، وتأكيد الردع الذاتي في مواجهة أي اعتداء بعيدًا عن الاعتماد المطلق على الضمانات الأمريكية.الاتفاقية العسكرية السعودية–الباكستانية الأخيرة ليست مجرد ورقة عابرة في المشهد السياسي، بل حلقة جديدة في مسار السياسة الدفاعية للمملكة. وكما شكّلت صفقة الصواريخ الصينية في الثمانينات منعطفًا تاريخيًا، فإن هذا الاتفاق يؤكد أن المملكة مصممة على حماية أمنها بما تراه مناسبًا، ولو أدى ذلك إلى تجاوز الحليف الأمريكي التقليدي.مع الحرج الذي تواجهه واشنطن بسبب سياسات إسرائيل، يبدو أن المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من إعادة تشكيل التوازنات. المملكة العربية السعودية تضع نفسها في قلب هذه المرحلة، لاعبًا رئيسيًا لا يكتفي بالتكيف مع موازين القوى، بل يسعى إلى صناعتها عبر شراكات استراتيجية متعددة، بما في ذلك الاتفاقية الأخيرة مع باكستان.الأحبابي يكتب: السعودية من 'رياح الشرق' إلى الاتفاق العسكري مع باكستان
مدار الساعة ـ