في هذه المرحلة التاريخية، حيث تتسارع وتيرة الأخطار الكوكبية – من تزايد حالات الطقس المتطرفة إلى تدهور أنظمتنا البيئية – لم يعد التحدي المناخي مجرد "قضية بيئية" هامشية، بل أصبح تحدياً وجودياً يهدد الأمن القومي، والنمو الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي. والتقارير العلمية الأخيرة صارخة: عام 2024 يُصنَّف كواحد من الأعوام الأكثر حرارة على الإطلاق ، وتداعيات النشاط البشري على الكوكب وصلت إلى مستويات قياسية.
ومسؤوليتنا كقادة ومربين هي تحويل هذا الإنذار العلمي القاسي إلى طاقة إيجابية قادرة على رفع الوعي العام وصنع التغيير. وهذا يتطلب معالجة الحاجز الأكبر: مقاومة التغيير المتجذرة بين الشباب.هذا هو التساؤل الجوهري الذي نسعى لمعالجته، وتوفير أدواته العملية، ضمن ورش العمل التدريبية كمتطوع وزارة الزراعة بالتعاون مع المبادرات التطوعية مثل (خيرها والجامعيون وهذا أنا) على "المنصة الوطنية للتطوع ومشاركة الشباب نَحْنُ".أولاً: تفكيك الجمود—تحويل القلق إلى قوة دافعةإن الإحجام عن العمل المناخي لا ينبع من الإنكار، بل من شعور عميق بالإلحاح دون وجود القدرة على التحكم. عندما يدرك الشباب ضخامة الأزمة، مع غياب المسارات الواضحة للمشاركة الفعالة، يتحول القلق البيئي إلى جمود سلوكي. إنهم لا يطالبون بمقعد رمزي على الطاولة، بل بعمليات صنع سياسات شاملة تضمن أن تؤخذ أصواتهم في الاعتبار الفعلي. لذا، يجب أن يبدأ القائد المستقبلي رحلة الإقناع من خلال تطبيق نهج علمي لكسر هذا الشلل:● تحويل القلق إلى أمل عملي: يجب أن تركز الحوارات على الحلول الملموسة والمسارات الممكنة ، والابتعاد عن مجرد بث الخوف. الأمل الحقيقي ينبع من الثقة المدعومة بالحلول، وليس من التفاؤل الأعمى. ● التشخيص السلوكي: نستخدم منهجية علمية (مشتقة من مبادئ العلاج المعرفي السلوكي) لتحديد وتحدي الأفكار السلبية التي تسبب الشلل. ثم نحدد السلوك المستهدف بوضوح ودقة ليكون قابلاً للقياس والتعزيز. ثانياً: فن الإقناع المؤثر: المنطق هو العملة الجديدةإن القدرة على الإقناع هي جوهر القيادة. على القائد الشاب أن يتقن المزيج البلاغي الثلاثي (الإيثوس، والباثوس، واللوغوس)، حيث يؤكد أرسطو أن المنطق (Logos) هو العنصر الأهم في حوارات الإقناع. ● تكميم الإقناع (Quantifying Conviction): لكسر مقاومة التغيير، يجب تحويل الأهداف البيئية إلى حجج اقتصادية وسلوكية بسيطة ومقنعة. بدلاً من الحديث عن ملايين الأطنان من الانبعاثات، يجب أن نمكّن الشباب من تحديد الأثر البيئي الحقيقي لأنشطتهم اليومية في الطاقة، والنقل، والسلوك الغذائي (باستخدام أدوات حاسبات البصمة المستدامة ). إن إظهار كيف أن تقليل استهلاك اللحوم الحمراء أو اختيار النقل المستدام يساهم بـ "كمية" محددة منخفضة من الانبعاثات، يحول التغيير من واجب أخلاقي غامض إلى خطة عمل منطقية ومحفزة. هذا هو الطريق الوحيد لتحويل الجمود إلى عمل. ● بناء المصداقية (Ethos): يجب أن يُبنى الإقناع على المصداقية والخبرة. وهذا يتطلب ربط العلم بالسياسات واحتياجات المجتمع ، واستخدام بيانات موثوقة من هيئات عالمية (مثل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC، التي بدأت دورتها التقييمية السابعة رسمياً في يوليو 2023 ). ثالثاً: الاقتصاد الأخضر: الأمل مدعوم بالابتكارإن الأزمة المناخية ليست مجرد تهديد، بل هي فرصة اقتصادية هائلة. يجب أن يرى الشباب في الاقتصاد الأخضر منظومة شاملة ومصدراً حقيقياً لفرص العمل المستدامة في الطاقة المتجددة، وإدارة النفايات، والزراعة المستدامة. ● الابتكار والرقمنة: الذكاء الاصطناعي (AI) والرقمنة هما أدوات محورية في مواجهة الأزمة. يسهم الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات البيئية، والتنبؤ بالكوارث، وتحسين كفاءة استخدام الموارد كالمياه والطاقة. كما أن التحول الرقمي يشجع على عادات منخفضة الكربون، مثل تقليل التلوث الناتج عن التنقل عبر تفضيل التعاون عن بعد. ● ريادة الأعمال الخضراء: تمثل ريادة الأعمال البيئية (Eco-Entrepreneurship) آلية لدمج الشباب في سوق العمل ، خاصة في ظل التحديات التي تواجه قطاعات مثل الزراعة ومصايد الأسماك. وتوجد برامج دعم وتمويل إقليمية ملموسة للشركات الناشئة الخضراء، حيث تقدم مسرّعات متخصصة دعماً مصمماً خصيصاً، وإرشاداً عملياً، وتمويلاً يصل إلى 5 ملايين جنيه مصري للحلول المبتكرة في الاقتصاد الدائري وإدارة النفايات. هذه الفرص هي دليل قاطع على أن العمل المناخي هو استثمار اقتصادي مربح، وليس عبئاً تنموياً.رابعاً: القيادة بالنموذج: خطة عمل يوميةلكسر الجمود، يجب على القائد الشاب ترجمة هذه المفاهيم الكبيرة إلى إجراءات يومية بسيطة:1. استراتيجية الكفاءة اليومية: تبني ممارسات ذات أثر مرتفع، مثل تطبيق مبدأ "اشترِ أقل، اشترِ جيداً" لتقليل النفايات والحفاظ على الموارد. 2. القيادة الرقمية المستدامة: تشجيع الموظفين والمؤسسات على تبني عادات منخفضة الكربون رقمياً، مثل تقليل مرفقات البريد الإلكتروني الكبيرة وإيقاف تشغيل الأجهزة الخاملة. 3. بناء الشراكات: العمل المناخي يزدهر بالتعاون. يجب على الشباب بناء شراكات فعالة لتعزيز المبادرات المحلية، مثل تلك التي قامت بربط المدارس الحكومية بالمستثمرين لتحسين البنية التحتية، أو الشراكات لتقديم وجبات غذائية صحية مستدامة. الرسالة الأخيرة:يكمن التحدي في تحويل الإدراك إلى إنجاز. عندما يمتلك الشباب الأدوات التحليلية (اللوغوس)، والمصداقية العلمية (الإيثوس)، والقدرة على قياس أثرهم التراكمي، فإنهم لا يملكون الأمل فحسب، بل يمتلكون القدرة على الإقناع اللازمة لتشكيل مستقبل أكثر استدامة. إنهم ليسوا متلقين للتحديات، بل هم مهندسو الجيل القادم.الركيبات تكتب: قادة الاستدامة.. من شلل اليأس إلى هندسة التغيير المنهجي
الدكتورة رشا الركيبات
باحثة علوم وسياسات نظام الأرض
الركيبات تكتب: قادة الاستدامة.. من شلل اليأس إلى هندسة التغيير المنهجي
الدكتورة رشا الركيبات
باحثة علوم وسياسات نظام الأرض
باحثة علوم وسياسات نظام الأرض
مدار الساعة ـ