يجب الادراك من الجميع إنه ثمة تحول عميق يجري في الوعي الأردني، تحول يعلن "نهاية زمن الخطابات المستهلكة" وبداية عهد جديد لا مكان فيه للغموض ولا للغطرسة اللغوية ولا للوصاية الفكرية، نعم نحن اليوم أمام مجتمع بدأ يشكّل وعيا حداثيا أكثر حدة ونضجا، وعيا يتحرك بثبات نحو فضاءات النقد والبحث والسؤال، وعيا "يرفض الاستسلام لرواية واحدة أو رؤية جاهزة أو صيغة قديمة من التواصل" الذي كان يصلح قبل عشرين عاما ولم يعد يصلح الآن.
هذا الوعي الجديد ليس مجرد حالة اجتماعية، بل "معركة تحصين للعقل الجمعي" معركة لرفع الحس الوطني من مستوى الشعور العاطفي إلى مستوى الوعي المسؤول، ومعركة لإعادة بناء الثقة بين الناس والدولة، بين المواطن والمؤسسة، بين الشارع والقرار.تحصين الوعي لم يعد رفاهية فكرية، بل أصبح شرطا لبقاء المجتمع متماسكا وقادرا على التمييز بين الحقيقة والتضليل، بين النقد والبث الهدّام، وبين الاعتراض الواعي "والضجيج الذي يصنعه من يبحث عن الضوء لا عن المصلحة العامة" فالمجتمع الذي لا يملك وعيا محصّنا يصبح سهل الاصطياد في زمن تتكاثر فيه المنابر ويتكاثر فيه "الخبراء المفترضون" الذين يحاولون اقتحام المجال العام بلا مسؤولية وبلا فهم، مسلحين فقط بالاستعراض والتمثيل والبحث عن “الشووو”، هنا يصبح رفع الحس الوطني ضرورة، ليس بوصفه شعارا عاطفيا بل كقيمة عقلانية تُعلّم الناس كيف يدافعون عن بلدهم "بالمعلومة لا بالانفعال، وبالوعي لا بالاندفاع، وبالبوصلة الوطنية التي تميّز بين الصديق والخصم، وبين النقد الإصلاحي والتهديم".رفع الحس الوطني يحتاج منا بكل جد لاعادة بناء الثقة مع الدولة ومؤسساتها، فالثقة ليست منحة تُعطى، ولا حالة تستورد، ولا شعورا يفرض بالقوة، الثقة تُبنى حين يصبح الخطاب صريحا قادرا على مخاطبة العقل قبل العاطفة، حين يتوقف عن الدوران حول الحقائق، وحين يتقدم الصفوف لا خلفها، الثقة تُبنى حين يشعر الأردني أن المسؤول يتحدث معه لا فوقه، وأنه يرى قلقه ويتفهم غضبه ويستوعب تطلعاته، الثقة تُبنى حين يصبح "صوت الخطاب صادقا ومباشرا ومربوطا بالواقع لا مسكونا بالعموميات ولا محكوما بالأساليب القديمة" التي لم تعد قادرة على الوصول إلى عقل الجمهور.هنا تصبح "إعادة صناعة النخب" جزءا من معركة الوعي نفسها، فما قيمة تحصين العقل إن تُرك "الميكروفون" لمن يبحثون عن الظهور على حساب الحقيقة؟ وما جدوى رفع الحس الوطني إن كان من يحتل المشهد العام هم من "يبيعون الإثارة" ويشحنون الناس بعبارات متهورة؟ وما معنى إعادة الثقة "إن ظل المنبر العام مختطفا من فئة تتكئ على الضجيج بدل المعرفة؟".. إن الخطاب الجديد يحتاج إلى نخب جديدة، نخب قادرة على ترجمة لحظة التحول، نخب تحمل فكرا لا صدى، رؤية لا ادعاء، مشروعا لا رغبة في الظهور، نخب تعيد ضبط الساحة وتستعيد هيبة الكلمة.إن الأردني اليوم أكثر وعيا مما يعتقد كثيرون، وأكثر قدرة على "التمييز بين ما يُقال له وما يُراد به" وأكثر استعدادا لتصديق من يصدقه، وللوقوف مع من يقف معه، لكن هذا الوعي نفسه يفرض مسؤوليات كبرى ( خطاب وطني صريح، منبر نظيف من المزاودين، نخب مسؤولة، ومؤسسات لا تخاف الحقيقة) حين تتكامل هذه العناصر، يصبح تحصين الوعي أكثر قوة، ويصبح الحس الوطني طاقة بناء لا ورقة ضغط، وتعود الثقة مع الدولة إلى مكانها الطبيعي (أساس الاستقرار، وعمود السياسة، وغراس المستقبل).إن الوعي الحداثي الآن ليس موجة عابرة، بل بداية زمن جديد في الأردن، و"قوة صاعدة، وطاقة حية، ومرآة تعكس ما أراده الناس منذ زمن" ومن لا يقرأ هذه اللحظة جيدا سيفقد جمهوره، وسيفقد أثره، وسيصبح مجرد صوت آخر في خلفية الضجيج، أما من يفهمها، فسيكون جزءا من صناعة المستقبل الواعد المشرق، الاردن دائما يستحق منا الأفضل.شطناوي يكتب: الوعي الحداثي في الأردن… ولادة فكر جديد يتطلّب إسكات الضجيج وصناعة نخب تستحق المنبر
ياسر شطناوي
شطناوي يكتب: الوعي الحداثي في الأردن… ولادة فكر جديد يتطلّب إسكات الضجيج وصناعة نخب تستحق المنبر
مدار الساعة ـ