أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين رياضة اخبار خفيفة ثقافة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

قرقودة تكتب: أُرْدُنِّيَّةٌ وَأَفْتَخِرُ


تغريد جميل قرقودة

قرقودة تكتب: أُرْدُنِّيَّةٌ وَأَفْتَخِرُ

مدار الساعة ـ

فِي الأزمِنَةِ الَّتِي يَكَادُ فِيهَا اليَأْسُ يَهْمِسُ فِي النُّفُوسِ، يَنْهَضُ الأُرْدُنِيُّ مِنْ أَعْمَاقِ تُرَابِهِ كَمَا تَنْهَضُ الأُسْطُورَةُ مِنْ رَمَادِهَا، رَافِعًا رَأْسَهُ أَمَامَ العَالَمِ وَهُوَ يَنْطِقُ بِالكَلِمَةِ الَّتِي تَخْتَصِرُ صَلَابَتَهُ: رُوحٌ لَا تُهْزَمُ، وَعِزٌّ لَا يَنْحَنِي، وَنَارٌ لَا تَنْطَفِئُ. هُنَا، حَيْثُ تَتَقَاطَعُ الذَّاكِرَةُ مَعَ الحُلْمِ، يَقِفُ ابْنُ الأُرْدُنِّ بِمَلَامِحَ تُشْبِهُ تَضَارِيسَ وَطَنِهِ: صَامِتَةً، شَامِخَةً، لَا تُرْكِعُهَا الرِّيَاحُ، وَلَا تُرْهِبُهَا العَوَاصِفُ.

أَنَا ابْنُ هَذَا التُّرَابِ؛ لَا أَحْمِلُهُ فَخْرًا فَحَسْبُ، بَلْ أَحْمِلُهُ قَدَرًا وَنُبُوءَةً، وَخَطًّا أَحْمَرَ لَا تَمْحُوهُ الأَيَّامُ. كُلَّمَا مَرَرْتُ فِي بِلَادِي، شَعَرْتُ أَنَّ نَبْضَ الجِبَالِ يُشْبِهُ نَبْضِي، وَأَنَّ الرِّيحَ الَّتِي تَعْبُرُ الأَغْوَارَ تُشْبِهُ عِنَادِي، وَأَنَّ غُبَارَ الطُّرُقِ فِي إِرْبِدَ وَعَمَّانَ وَالكَرَكِ وَمَعَانَ يَحْمِلُ سِرًّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الأُرْدُنِّيُّونَ: لَسْنَا أَبْنَاءَ حُدُودٍ، بَلْ أَبْنَاءَ تَارِيخٍ يَرْفُضُ الاِنْحِنَاءَ.

أَحْمِلُ جَوَازَ سَفَرِي الأُرْدُنِّيَّ كَمَا يَحْمِلُ الجُنْدِيُّ رَايَتَهُ، لَا لِأَتَبَاهَى بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، بَلْ لِأُذَكِّرَ نَفْسِي بِأَنَّنِي وَرِيثُ عَرَقٍ صَلْبٍ، وَشُمُوخٍ لَا يَخْبُو، وَاسْمٍ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الرِّفْعَةَ. أَعِيشُ بَيْنَ أَهْلِي أَهْلِ الوَفَاءِ؛ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ مِنَ الشِّدَّةِ قُوَّةً، وَمِنَ البَسَاطَةِ مَهَابَةً، وَمِنَ القِلَّةِ كَرَامَةً لَا تُشْتَرَى.

لَا وَطَنَ يُشْبِهُ الأُرْدُنَّ، لِأَنَّهُ لَا يُقَاسُ بِالمَسَافَاتِ، بَلْ بِالصَّلَابَةِ الَّتِي فِي قُلُوبِ سَاكِنِيهِ، وَبِذَلِكَ المِزَاجِ النَّادِرِ مِنَ الحُلْمِ العَنِيدِ، وَالصَّمْتِ الَّذِي يَتَحَدَّثُ، وَالكَرَامَةِ الَّتِي لَا تُنْكَسَرُ. نَحْنُ أَبْنَاءُ مَدَارِسَ لَمْ تُدَرِّسِ العِزَّ، بَلْ وَرَّثَتْهُ؛ أَبْنَاءُ جِبَالٍ لَمْ تُبْنَ بِالحِجَارَةِ، بَلْ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ. وَعِنْدَمَا نَقُولُ: «أُرْدُنِيٌّ»، فَإِنَّنَا لَا نُعَرِّفُ أَنْفُسَنَا، بَلْ نُعْلِنُ مَوْقِعَنَا فِي خَرِيطَةِ الكِبْرِيَاءِ وَالقَدَرِ.

وَقَدْ عَبَّرَ المَلِكُ الحُسَيْنُ بْنُ طَلَالٍ، رَحِمَهُ اللهُ، عَنْ هَذِهِ الحَقِيقَةِ بِعِبَارَةٍ لَا تَزَالُ تَسْتَقِرُّ فِي وِجْدَانِ كُلِّ أُرْدُنِيٍّ حِينَ قَالَ:

«سَيَأْتِي يَوْمٌ يَتَمَنَّى كُلُّ مَنْ لَا يَحْمِلُ الجِنْسِيَّةَ الأُرْدُنِّيَّةَ لَوْ أَنَّهُ أُرْدُنِيٌّ».

لَيْسَتْ هَذِهِ الكَلِمَاتُ مُجَرَّدَ فَخْرٍ، بَلْ تَوْصِيفٌ لِجَهْدٍ تَرَاكَمَ عَبْرَ عُقُودٍ، وَلِرُوحٍ صَنَعَتْ حُضُورًا يَفُوقُ المَسَاحَةَ وَالجُغْرَافِيَا، وَلِشَعْبٍ صَلْبٍ يَعْرِفُ دَائِمًا كَيْفَ يَنْهَضُ مِنْ قَلْبِ العَاصِفَةِ أَكْثَرَ قُوَّةً وَأَشَدَّ نَقَاءً.

وَفِي لَحْظَةِ صَفَاءٍ نَادِرَةٍ، حِينَ يَقِفُ الإِنْسَانُ عَلَى مُرْتَفَعٍ وَيَنْظُرُ إِلَى وَطَنِهِ، يَشْعُرُ أَنَّ الأُرْدُنَّ لَا يُرَى فَقَطْ بِالعَيْنِ، بَلْ يُرَى بِالرُّوحِ؛ تِلْكَ الرُّوحُ الَّتِي تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا البَلَدَ لَمْ يُبْنَ بِالحِجَارَةِ وَحْدَهَا، بَلْ بِقُلُوبٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَعَزَائِمَ لَا تُقْهَرُ، وَقِيَادَةٍ هَاشِمِيَّةٍ حَمَلَتِ الوَطَنَ كَمَا تَحْمِلُ الأُمُّ طِفْلَهَا: بِحَنَانٍ لَا يَضْعُفُ، وَبِقُوَّةٍ لَا تُقْهَرُ. وَهُنَا يُدْرِكُ الأُرْدُنِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ مُوَاطِنٍ، بَلْ حَلَقَةٌ مِنْ حَلَقَاتِ المَجْدِ، وَصَوْتٌ مِنْ أَصْوَاتِ العِزِّ، وَظِلٌّ مِنْ ظِلَالِ رَايَةٍ لَمْ تُنَكَّسْ يَوْمًا.

وَفِي عُمْقِ الوِدْيَانِ وَعَلَى قِمَمِ الجِبَالِ، تَتَحَدَّثُ الأَرْضُ إِلَى أَبْنَائِهَا، تَقُولُ لَهُمْ: قِفُوا كَمَا أَرَادَكُمُ التَّارِيخُ أَنْ تَقِفُوا. فَالرُّوحُ الأُرْدُنِّيَّةُ، وَإِنِ اهْتَزَّتْ، تَبْقَى مُشْتَعِلَةً، كَأَنَّهَا شُعْلَةٌ أَبَدِيَّةٌ وَسْطَ الظَّلَامِ، تُضِيءُ الطَّرِيقَ لِكُلِّ مَنْ يَبْحَثُ عَنْ مَعْنَى الاِنْتِمَاءِ. الكَرَامَةُ هُنَا لَيْسَتْ شِعَارًا، بَلْ سُلُوكًا يَوْمِيًّا، وَالفَخْرُ لَيْسَ كَلِمَاتٍ تُقَالُ، بَلْ عَزِيمَةٌ تُصْنَعُ، وَإِرَادَةٌ تَشُقُّ طَرِيقَهَا فِي صَمْتٍ. وَكُلُّ قَلْبٍ أُرْدُنِيٍّ يَعْرِفُ أَنَّ الوَطَنَ لَيْسَ مَكَانًا… بَلْ حَيَاةٌ كَامِلَةٌ تُعَاشُ بِنَبْضٍ خَالِدٍ.

وَحِينَ يَهْدَأُ كُلُّ شَيْءٍ وَيَجْلِسُ المَرْءُ مَعَ نَفْسِهِ، يَعْلُو صَوْتُ الأُرْدُنِّ فِي دَاخِلِهِ، صَوْتٌ يُشْبِهُ وَعْدًا لَا يَذْبُلُ، وَعَهْدًا لَا يُكْتَبُ بِالحِبْرِ، بَلْ يُنْقَشُ عَلَى القَلْبِ. أَنَا الأُرْدُنِيَّ الَّذِي لَا يَنْكَسِرُ، لِأَنَّنِي ابْنُ أَرْضٍ عَلَّمَتِ الجِبَالَ كَيْفَ تُغِيظُ الرِّيَاحَ، وَعَلَّمَتِ التَّارِيخَ كَيْفَ يَحْفَظُ اسْمَهَا دُونَ أَنْ يَتَرَنَّحَ. وَمَا دُمْتُ أَحْمِلُ هَذَا النَّبْضَ فِي صَدْرِي، فَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الفَخْرَ لَا يَشِيخُ، وَأَنَّ العَظَمَةَ تَتَجَدَّدُ مَعَ كُلِّ خُطْوَةٍ عَلَى هَذَا التُّرَابِ.

وَمَا أَعْظَمَ أَنْ أَكُونَ أُرْدُنِيًّا… وَمَا أَسْمَى أَنْ يَحْمِلَنِي الأُرْدُنُّ كَمَا أَحْمِلُهُ، هَيبَةً فَوْقَ هَيبَةٍ، وَعِزًّا فَوْقَ عِزٍّ.

مدار الساعة ـ