كلَّما تَصدُر النشرة الرسمية لوزارة المالية أو يصدر البنك المركزي سَنَدات، تقوم الدُّنيا وتَقعد حول موضوع المديونية، إذ تُفسَّر الأرقام بشكل خَطير وشَعبويّ دون التعمُّق في التحليل أو فَهم أُسُس الحوار الاقتصادي، ومن حقّ المواطن أن يَقلَق من ارتفاع قيم الدَّين كأرقام مُطلقة أو كنِسَب مئوية، ومن واجب الحكومة أن تُقدِّم خَريطة طريق واضحة لمعالجة الدين كي تتوقّف التأويلات غير المنطقية.
وقد أشَرت في أكثر من مقال إلى أنَّ قُدرة استدامة إدارة الدَّين لدى الأردن كبيرة جداً، ولا يوجد ما يَدعو للقلق، وذلك لثلاثة أسباب رئيسة: أولاً، النموُّ الاقتصاديُّ الأردنيُّ يَتقدّم بشكل مُطرد نتيجة الإصلاح الماليّ والاقتصادي، خصوصاً في الإصلاحِ الضريبيّ وضبط النفقات، ما يُعزِّز قُدرة المالية العامة على تَمويل احتياجاتِها والوفاء بالتزاماتِها.ويكفي التذكير بأنَّ الأردن منذ عام 1989 لم يَتخلّف عن سداد أيِّ دَين داخليّ أو خارجيّ، وحتى في أصعب الظروف مثل جائحة كورونا تمَّ سداد سَنَدات يوروبوند بقيمة مليار دولار، ما أثار إعجاب المانحين والمؤسسات الدولية.ثانياً، العلاقة مع صندوق النقد الدولي، حيث يرتبط الأردن ببرنامجٍ هيكليّ لأربعِ سنوات، وهو امتداد لبرامج سابقة وفَّرت مساحات مالية للاقتراضِ بفوائد تُعَدُّ من الأفضل في الشرقِ الأوسط، على عكسِ دُوَل ارتفعت عليها الفوائد بسبب ضَعف الثقة، كما تُعزِّز هذه البرامج استدامةَ العلاقة مع المانحين والمؤسسات الدولية، وتُسهِم في حصول الحكومة على قروض منخفضة الكُلفة لتمويل التزاماتِها.ثالثاً، الشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، حيث يحصلُ الأردن على أكبر المنح المباشرة للخزينة بقيمة تتجاوز 840 مليون دينار، ممّا يُوفّر استدامة مالية واستقراراً للتدفُّقات النقدية.وتشير أرقام مشروع موازنة 2026 إلى أنَّ إجماليَّ الإيرادات يبلغ حوالي 10.9 مليار دينار، فيما تصل النفقات العامة إلى 13.1 مليار دينار، ليكون العجز المُقدَّر حوالي 2.1 مليار دينار يتمّ تَمويله عبرَ موازنة التمويل، وتمثّل موازنة التمويل خُطّة الحكومة لسداد الاحتياجات التمويليّة الداخلية والخارجية بإجمالي 7.1 مليار دينار، إضافةً إلى تمويلِ العجز المالي بقيمةِ 2.1 مليار دينار، وتمويلِ عجزِ سلطة المياه وتسديدِ مستحقّاتِها بمبلغ 330 مليون دينار، وسداد أقساط القروض والمتأخّرات والتأجير التمويليّ والصكوك الإسلامية بقيمة 285 مليون دينار.ومن المهمِّ التأكيد أنَّ رصيد المديونية للعام القادم لن يَزيد بإجماليِّ موازنة التمويل، لكن فقط بمقدارِ الاقتراضِ الجديد المخصَّص لتمويل العجز، إذ إنه ووفق التقديرات، فإنَّ الاقتراض الجديد سيكون ضمن مستوياتِه التقليدية، بل أقلَّ من مستواه المتوقع لعام 2025، ليصل إلى حوالي 2.6 مليار دينار.هذه النقطةُ بالذات- والتي كثيراً ما تَغيب عن النقاشِ العام- تَعكس جوهر إدارة الدَّين في الأردن: إذ إنَّ الجزء الأكبر من الاقتراض ليس زيادة في الدين، بل إعادة تمويل لالتزامات قائمة، بينما الزيادة الفعلية تأتي فقط من تمويل العجز.وهكذا تُظهر موازنة التمويل لعام 2026 انضباطاً واضحاً وتراجعاً في الأموال الجديدة المخصَّصة للاقتراض، حيث تسجِّل أدنى مستوى لها منذ خمس سنوات، وهو ما يُعدّ مؤشراً إيجابياً على صلابة الإدارة المالية واستدامة قدرة الأردن على إدارة الدين بكفاءة ومسؤولية.في النهاية لا يوجد ما يقلق في موضوع الدين، والجدل الدائر حوله صحي ومنطقي لكن في بعض الأحيان تفسر الأرقام بطريقة مجردة بعيدة عن الصواب لأهداف إما شعبوية أو دون معرفة بالتحليل المنطقي للأرقام.الدين العام جدل لا ينتهي
مدار الساعة (الغد الأردنية) ـ