في السنوات الأخيرة بدأت ألاحظ كما لاحظ الكثيرون أن شيئاً ما يتغير في طريقة تعاملنا مع ثقافتنا المحلية و برغم أن الأردن مليء بالمدن التي تحمل تاريخاً عريقاً وفي كل زاوية منها تروى بالعادات والتقاليد التي شكلت هويتنا لسنوات طويلة إلا أن كثيراً من هذه التفاصيل أخذت تتراجع أمام إيقاع الحياة السريع وطغيان الحداثة المستمر وأصبحنا نمر على الأماكن دون أن نتوقف عند قصصها ونمارس عاداتنا دون أن نعرف جذورها حتى بات الخوف من أن نفقد جزءاً مهماً من ذاكرتنا الوطنية أمراً حقيقياً.
يشهد الأردن اليوم تحولات اجتماعية وثقافية متسارعة فرضتها الحداثة وأنماط الحياة الجديدة والتطور التكنولوجي الذي غير شكل الوعي الجمعي وبين السعي اليومي لتأمين متطلبات الحياة والانشغال بعالم رقمي مفتوح بلا حدود أدت الى تراجع واضح في المعرفة بتاريخ المدن الأردنية وضعفت العلاقة بالعادات والتقاليد المحلية، حتى بتنا أمام أزمة هوية ثقافية تتسع ملامحها عامًا بعد عام وأصبح المتمسكون بها قلة ومع مرور الزمن والضروف الاقتصادية واسلوب التواصل الاجتماعي الحديث هذه القله تتلاشى أكثر فأكثر وتصبح الهوية الوطنية شبه معدومة.هذه الأزمة ليست اختفاءً للثقافة بقدر ما هي انقطاع في سلسلة نقلها من جيل إلى جيل؛ انقطاع تسببت به عوامل اقتصادية وتعليمية وإعلامية واجتماعية جعلت الذاكرة الوطنية أقل حضوراً في حياة الناس وأكثر عرضة للنسيان حيث كانت المجالس العائلية والمدافئ الشتوية مدارس مفتوحة للثقافة تُروى فيها الحكايات ويُنقل من خلالها التراث لكن مع انشغال الأهل وتشتت الأسرة بين التكنولوجيا والعمل انقطع هذا الخيط العاطفي وأدى الى أنه لم يعد لدى الناس وقت لتأمل تفاصيل المكان أو زيارة المواقع التاريخية أو سماع قصص الأجداد أصبح التركيز على العمل والدراسة والألتزامات اليومية لدرجة أن الثقافة المحلية أصبحت “كمالية” في نظر كثيرين والسبب برأيي انتقال الناس من القرى إلى المدن خلق حالة من الاندماج الحضري الذي قلل ارتباط الفرد بالمكان الأصلي فضعفت الممارسات الثقافية والاجتماعية التقليدية و تقدم في منصات التواصل محتوى عالمياً سريعاً يطغى على المحتوى المحلي فأصبح الشاب يعرف عن تراث دول أخرى أكثر مما يعرف عن تراث بلدته أو قبيلته أو منطقته والمناهج الدراسية الحالية تقدم أجزاءً بسيطة من تاريخ الأردن وغالبا بطريقة جافة لا تُشعل خيال الطالب فلا يعرف كثير من الشباب عن تاريخ المدن الاردنية أو تاريخ العشائر الاردنية ودورها في تأسيس الإمارة أو مسارات القوافل القديمة او ما هو حال الاردن قبل تأسيس الإمارة من التقسيمات الإقليمية وطريقة الحكم فيها ووووو....فنحن الآن بحاجة الى حل هذه المشكلة والحفاظ عليها قبل فقدانها بتعزيز السياحة الداخلية في الاردن ومعرفة الناس بالتراث الاردني (كنز الأجاد ) فتعزيز السياحة الداخلية في الأردن يحتاج إلى رؤية شاملة تُعيد ربط المواطن ببلده وتمنحه تجربة سياحية قريبة وسهلة وممتعة ويمكن تحقيق ذلك من خلال تطوير البنية التحتية للمواقع السياحية وتوفير مسارات واضحة للزيارات العائلية والشبابية بأسعار مناسبة للجميع كما يجب على البلديات والمحافظات إبراز هوية كل مدينة وقصتها الخاصة بحيث يشعر الزائر أنه أمام تجربة فريدة لا تتكرر ويمكن لوسائل الإعلام وصناع المحتوى أن يلعبوا دوراً مهماً من خلال تسليط الضوء على الكنوز المخفية وتقديم قصص الأماكن بطريقة تبعث على الفضول تناسب عقول المجتمع الأردني ولا يقل أهمية عن ذلك دعم الفعاليات والمهرجانات التراثية وتشجيع الحرفيين المحليين لعمل منتج تراثي خاص لكل منطقه وإطلاق مبادرات تُشجع الأردنيين على اكتشاف وطنهم بالإضافه الى عمل برامج إعلامية حديثة مختصة فريدة من نوعها لنقل هذه الثقافة ليس بالأردن فقط بل في جميع انحاء العالم لأن السياحة الداخلية في النهاية ليست رحلة فقط ولا حدودها تقتصر على الداخل بل تمتد الى الخارج وتعتبر البنية الاساسية لجلب السياحه من الخارج وهي علاقة مستمرة بين الإنسان والمكان لا تنتهي بإنتهاء الزيارة .من صخب الحياة الحديثة ومن سطوة التكنولوجيا ومن ضجيج العالم اللامتناهي يحتاج الأردني أن يتوقف قليلاً و أن ينظر حوله وأن يتذكر أن هذه الأرض ليست مجرد مساحة جغرافية بل ذاكرة ممتدة وشعور بالانتماء.(أزمة الهوية الثقافية ليست قدراً بل إنذاراً ) وما زال بإمكان الأردني أن يستعيد حكايته إذا أعاد الإعتبار لتاريخه وثقافته وتراثه…"من ينسى قصته، يفقد الطريق، ومن يعرف تاريخه، يصنع مستقبل".المجالي يكتب: من صخب الحياة الحديثة إلى النسيان (أزمة الهوية الثقافية في الأردن)
مدار الساعة ـ