لا شك أن توجيه سموّ وليّ العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني خلال زيارته لمحافظة الطفيلة، لم يكن مجرد دعوة لتوثيق تاريخ الأردنّ، بل هو تحديدٌ دقيقٌ لأولويات المرحلة المقبلة؛ واستراتيجيّة وطنيّة متكاملة لتشكيل وعيٍ جماعيّ يمسّ لبّ الهويّة الأردنيّة وعمقها في حاضرها وما تصبو إليه مستقبلًا.
فالسرديّة الوطنيّة ليست مجرّد وقائع تاريخيّة مسطورة، وإنّما هي روحُ الأمّة وضميرُها الحيّ، تتغذّى من قيمها وتاريخها وتطلّعاتها، وتتغلغل في نسيج المجتمع عبر الفنون والثقافة والخبرات الحياتيّة، وتجعل من كلّ شابٍّ وشابّة شريكًا فاعلًا في صياغة قصّة الأردن.إنّ تركيز سموّ وليّ العهد على دور الشباب في صياغة السرديّة الوطنيّة يعكس توجّهًا استراتيجيًا، ويمثّل انتقالًا من المشاركة التقليديّة إلى مستوى أعلى من الفاعليّة والاستدامة؛ إذ ينتقل بالدور الشبابي من مجرّد متلقٍّ سلبيّ مكتفٍ بدور المتفرّج، إلى شريكٍ حقيقيّ فاعل في كتابة تاريخ وحاضر ومستقبل الأردنّ.فلم يعد الجيل الجديد يقف عند حدود سماع قصص الماضي والأجداد، بل أصبح يمتلك أدواتٍ عصريّةً لا حدود لها؛ كالإعلام الرقمي، ومنصّات التواصل الاجتماعي، والقدرة العجيبة على إنتاج المحتوى المرئي والمسموع بسرعة فائقة؛ فيصل إلى جمهور ليس فقط محلّيًا، بل عالميًّا واسعًا. وتتيح هذه الإمكانيّات جميعها للشباب القدرة على تقديم "السرديّة الأردنيّة" بلغة جديدة ومعاصرة يفهمها العالم، وتنسجم مع نبض العصر الحالي، لكنّها في الوقت ذاته، تظلّ راسخة الجذور ومتجذّرة في الهويّة الأردنيّة الأصيلة.إنّ تمكين الشباب الواعي، المُدرك لهويّته، والمؤمن بوطنيّته، لقيادة دفّة الرواية الوطنيّة؛ يضمن للأردنّ صوتًا شابًا وحيًّا يعكس طموحاته وتطلّعاته. وبهذا، لا يصبح الانتماء شعارًا يُرفع، بل تجربة متجذّرة في الذاكرة الثقافيّة للمجتمع، تُبنى على فهمٍ مشتركٍ للتحدّيات والإنجازات، فتصبح هذه السرديّة لغة جديدة للأردن؛ حديثة، معاصرة، وراسخة الجذور.وتجسّد الفنون نبض الذاكرة الجماليّة والوجدانيّة التي تُشكّل السرديّة الوطنيّة، فهي ليست ترفًا بل مكوّنًا أساسيًّا في تشكيل وعي الأمّة وحماية هويّتها. فبينما تُحفظ الحقائق في السجلات والوثائق؛ تُمثّل الفنون بأشكالها المتنوّعة؛ من موسيقى ودراما وأدب وتراث، وجدان الأمّة وتجاربها الإنسانيّة بشكل مباشر وعميق. والموسيقى الأردنيّة، بمختلف ألوانها من الهجيني، والسامر، والدبكة، إلى الأغنية الوطنيّة الحديثة، خير شاهد على ذلك؛ إذ كانت وما زالت مرآةً صادقةً تعكس أفراح الأردنيين، وأحزانهم، وصبرهم، ونضالهم، وتوثّق انتماءهم العميق للأرض والقيادة.وفي هذا السياق، يبرز "مهرجان الأغنية الأردنيّة"، الذي سيُقام هذا الأسبوع، كمنصّة وطنيّة حيوية تُجسّد هذه الحقيقة على أرض الواقع. فالمهرجان يتجاوز كونه مجرّد فعاليّة فنيّة احتفاليّة، ليصبح فعلًا ثقافيًا عميقًا يُكرّس حضور الأغنية الأردنيّة الأصيلة في الذاكرة المجتمعيّة، كما يُعيد إبراز الدور المحوريّ للفن في التعبير عن الهويّة والوجدان الأردني، ويُرسّخ قيم الانتماء الوطني الصادق من خلال أصوات الشباب والمبدعين المشاركين فيه. لهذا، فإنّ دعمَ الإنتاجِ الفنيّ والثقافيّ ليس مجرّدَ دعمٍ للمواهب، بل هو أحدُ أهمِّ مفاتيحِ إطلاقِ الإبداع، وهو استثمارٌ حيويٌّ في الذاكرةِ الجمعيّة، يُعزّز الهويّةَ الوطنيّة ويحميها من التشويه، ويُخاطب عقولَ وقلوبَ الناس بطريقةٍ تفوق تأثيرَ أيِّ خطابٍ سياسي.إنّ دعوة سموّ وليّ العهد لكتابة السرديّة الوطنيّة هي مهمّة جماعيّة، وواجب وطنيّ، وتحمل في طيّاتها مسؤوليّة مباشرة وملحّة تقع على عاتق كلّ أردنيّ وأردنيّة. فكلّ فرد في المجتمع أيًّا كان عمله ومكانه؛ سواء كان فنّانًا، أو باحثًا، أو مؤرّخًا، أو كاتبًا، أو إعلاميًا، أو طالبًا جامعيًّا، أو حتى صانع محتوى على منصّات التواصل الاجتماعي، يمتلك جزءًا فريدًا من خيوط هذه الرواية الجامعة.كما أنّ دعوة سموّه تنطوي على مسؤوليّة واضحة وعاجلة تقع على عاتق المؤسّسات الثقافيّة والتعليميّة في الدولة لقيادة هذا المشروع الوطني. فوزارة الثقافة، بصفتها الحاضن الطبيعيّ لمشاريع الهويّة وأداة الدولة لدعم الإنتاج الفنيّ وحفظ التراث المادّي وغير المادّي، مطالبةٌ بوضع أطر عمل فعّالة. وفي الوقت ذاته، تضطلع الجامعات بدور محوريّ عبر البحث الأكاديمي، والتوثيق، وتدريب الطلبة على صناعة المحتوى، وأرشفة التراث الفنيّ، وإنتاج المعرفة الثقافيّة.فحين تتعانق هذه الجهود، وتتكامل، وتُجمع هذه الأجزاء المتناثرة؛ تتشكّل "قصّة الأردن" بكلّ جمالها، وقيمها الأصيلة، وتفاصيلها الغنيّة، لتكون سردًا وطنيًا متكاملًا يعكس حقيقة الأردن وشعبه، وفخرنا بهويّتنا الوطنيّة العريقة.عباسي تكتب: 'السرديّة الأردنيّة' رؤية سموّ وليّ العهد ودور الشباب في توثيق التاريخ وصياغة الحاضر وصناعة المستقبل
د. هبة عباسي
قسم الموسيقى - كليّة الفنون والتصميم - الجامعة الأردنيّة
عباسي تكتب: 'السرديّة الأردنيّة' رؤية سموّ وليّ العهد ودور الشباب في توثيق التاريخ وصياغة الحاضر وصناعة المستقبل
د. هبة عباسي
قسم الموسيقى - كليّة الفنون والتصميم - الجامعة الأردنيّة
قسم الموسيقى - كليّة الفنون والتصميم - الجامعة الأردنيّة
مدار الساعة ـ