في عالمٍ يعلو فيه الضجيج فوق الفكرة، لا يبدو غريباً أن يمسك التافهون زمام الأمور. ف سوشل ميديا التي كان يُفترض أن تُنير الوعي، انزلقت نحو الإثارة والغرابة، تاركةً العقل خلفها يهمس بصوت خافت لا يكاد يسمعه أحد وسط صخب المحتوى السريع.
والفارق اليوم ليس بين من يصرخ ومن يفكر، بل بين خطاب يعلو بلا معنى و خطاب يفكر بصمت. فالقيمة لا تُقاس بارتفاع الصوت ولا بكثرة المتابعين، بل بعمق الأثر. ولهذا، يصبح اختيارك أن تكون صوت العقل وسط ضجيج الحمقى موقفاً أخلاقياً قبل أن يكون خياراً فكرياً.لقد دخلنا زمن التفاهة، زمن تذوب فيه القيم وتطفو القشور. حين تغيب المعايير، يعلو الرديء ويُكافأ التافه، فقط لأنه صاخب أو جميل أو مُستعرِض. يكفي أن يمتلك شخص فارغ حضوراً بصرياً ليُقدَّم كقدوة، ومع كثرة التلميع، يبدأ الجيل بتقليده.أن تكون تافهاً ما دمت مشهوراً، وما دامت الشهرة تُترجَم مالاً.وسائل التواصل رسّخت هذا الاختلال، فقد ساوت بين المثقف والجاهل، بين من يملك فكرة ومن لا يملك سوى ملامح أو مقلب. المشكلة لم تكن يوماً في وجود التافهين، فهؤلاء جزء من كل مجتمع بل في الانتباه الذي نمنحه لهم.نحن من يصنع نجوم التفاهة حين نستهلك محتواهم ونشاركه ونتفاعل معه، فنحوّل التفاهة إلى قيمة، والابتذال إلى ظاهرة.مع غياب المعايير الثقافية، تراجع المثقف إلى الهامش. سرعة المحتوى دهست عمقه، وتحولت "ثقافة الترند" إلى قانون جديد يطرد كل ما يحتاج وقتاً للتفكير أو قراءة أو فهم. وهكذا لم يخسر المثقف مكانته فحسب، بل خسر المجتمع بوصلته.إننا لا نعيش أزمة أفراد، بل أزمة منظومة قيم:إعلام يلهث خلف الصدمة لا خلف الحقيقة،مجتمع يكافئ السطحية،وجمهور يمنح انتباهه لمن لا يستحق.والسؤال اليوم ليس خطابياً:هل نبقى أسرى لهذا الانحدار؟ أم نستعيد صوت العقل قبل أن يختفي؟إن مقاومة عصر التفاهة لا تبدأ بثورة كبرى، بل بخطوة صغيرة:أن تكون واعياً لما تمنحه انتباهك.أن تدعم ما يضيف إليك، لا ما يسرق وعيك.فالنجومية الحقيقية لا يصنعها عدد المتابعين، بل عمق ما يتركه الإنسان في نفسه وفي الآخرين.إن استعادة العقل مسؤولية فردية أولاً، ثم جماعية.وكل قارئ يبدأ من نفسه، ومن نقرة واحدة بإما أن يرفع قيمة، أو يرفع تفاهة.