أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات مغاربيات دين بنوك وشركات خليجيات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

قرقودة تكتب: حين ينهشُ التنمّر ظِلّ الإنسان… وتبقى الروح أعمق من الجرح


تغريد جميل قرقودة

قرقودة تكتب: حين ينهشُ التنمّر ظِلّ الإنسان… وتبقى الروح أعمق من الجرح

مدار الساعة ـ

كان التنمّر في الأمس يشبه حجارة تُلقى على وعيٍ لم يتشكّل بعد، كأن الضحية تُصاغ بقالب الخوف قبل أن تفهم معنى وجودها. كان العالم ضيّقًا، الصوت فيه لا يتّسع لشكوى، والطفل الذي يُؤذى يبتلع صراخه حتى يشعر أن الكلام نفسه خيانة لضعفه. لم يكن الجرح مجرد كسرٍ عابر، بل تجربة تُعيد ترتيب صورة الإنسان عن نفسه، حتى يصبح صامتًا أكثر مما يحتمل العمر من صمت. وفي تلك اللحظات، لم تكن الهزيمة في الألم ذاته، بل في العجز عن تفسيره، لأن الإنسان حين يجهل مصدر الجرح، يظن أن العيب فيه هو لا في يدٍ امتدت لتؤذيه.

واليوم… يتنقّل التنمّر بوجهٍ جديد، لا يحتاج إلى ساحة مدرسة ولا إلى مجموعة تُحاصر ضحيتها. يكفي تعليق، يكفي حرفٌ يختبئ خلف شاشةٍ باردة، يكفي اسمٌ مستعار يُطلق سهامه دون أن يعرف ملامح من يستهدفه. أصبح التنمّر مرنًا، حادًا، يتقن التخفّي، يدخل البيوت من بلاط الضوء ويستقرّ في الهواتف كضيفٍ لا يغادر إلا بعد أن يترك أثره في الروح. ورغم أنّ العالم فعليًا صار أكثر وعيًا، فإن مساحة الأذى اتسعت، وأصبحت الكلمات —التي كنا نظنها أضعف أدوات الإنسان— أشدّ وطأة من الصفعة نفسها.

علماء النفس يرون أن التنمّر —قديمه وحديثه— ليس إعلانًا للقوة، بل تسريبًا للخوف المختبئ داخل المتنمّر. فالإنسان الذي يختار أن يؤذي، يحمل داخله منطقة مظلمة يعجز عن مواجهتها، فيسقطها على غيره. أما الضحية، فلا تنهزم عندما تتألم، بل عندما تسمح للألم أن يصبح جزءًا من تعريفها لذاتها. مدارس العلاج السلوكي تشير إلى أن الوعي هو أول خطوة للنجاة؛ الوعي بأنّ الجرح ليس هوية، وبأنّ صمت الأمس لم يكن ضعفًا، بل غيابًا للمساندة، وأنّ مواجهات اليوم ليست محاولة انتقام، بل خطوة لاستعادة النفس من يد من لم يستحقها.

وهنا تقف الفلسفة في نصف الطريق، لتقول:

التنمّر ليس فعلاً اجتماعيًا فقط، بل سلوكًا وجوديًا يكشف طبيعة الإنسان أمام ذاته. عندما يؤذي المرء غيره، فهو يعلن عن تشقّق داخلي، وعن قلقٍ وجودي يظن أنّ السيطرة على الآخرين تخفف حدّته. أما حين يرفض المرء أن ينهار أمام قسوة الكلمات، فهو يختار أن يبني ذاته من الداخل، أن يُعرّف نفسه على ضوء قيمه لا على ظلّ أحكام الناس. وهكذا يصبح الألم معلّمًا، والصمت حكمة، والمواجهة طقسًا للنضج، وكأن الإنسان يولد مرة ثانية كلما قاوم ضربة وأكمل الطريق.

ولأن الحقيقة أعمق مما تظهره السطحيات، فإن الفقرات الزائدة تكشف بُعدًا آخر:

التنمّر —في كل تعريفاته— ليس خلافًا بين قوي وضعيف، بل بين إنسان يعيش على سطح وجوده، وإنسان يغوص إلى أعماقه ليفهم مصادر قوّته. الشخص الذي يجرح الآخرين لا يدرك أنه يدور في حلقة مغلقة من شعوره بالنقص، بينما الضحية التي تقف من جديد تُحدث شرخًا في تلك الحلقة، وتعيد ترتيب موازين القوة دون أن ترفع صوتًا أو تُشهر غضبًا. إنها معركة صامتة، لكن نتائجها تُكتب في داخل الروح، حيث يدرك المرء أن نجاته لم تكن صدفة، بل كانت قرارًا شجاعًا.

وفي النهاية، يعود الإنسان من رحلته مع التنمّر أشبه بمحارب خرج من معركة لم يَطلبها، لكنه عاد منها أقوى، أصفى، وأشدّ وعيًا بما يستحقه. يقف أمام ظلال الماضي وأصوات الحاضر، ويقول بثباتٍ يشبه وقوف جبلٍ يعرف مكانه:

«قد ينهش التنمّر ظلّي… لكن روحي لا تُؤكل، وكرامتي لا تُمس.

أنا أملك ذاتي، وأنت لا تملك سوى صداك.»

مدار الساعة ـ