مدار الساعة - كتب مطلق الحجايا -
في كل مرحلة من مراحل الحياة، يكتشف الإنسان أن اختلال ميزان واحد كفيل بأن يربكه كلّه. فالحياة ليست عبادةً فقط، ولا هي عملٌ فقط، ولا هي علاقاتٌ اجتماعية فحسب؛ بل هي تناسقٌ بين كل هذه الجوانب، بحيث يُعطي الإنسان لكل باب ما يستحقه دون إفراط أو تفريط. وهذا التوازن ليس قيمة اجتماعية جميلة فحسب، بل هو أصلٌ راسخ في الدين قبل أن يكون شعارًا في الحياة الحديثة.ولعلّ من أعظم الشواهد على خطورة غياب التوازن، ما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال لأصحابه:«أتدرون من المفلس؟»فقالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.فقال: «المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة… ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا… فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طُرح في النار».هذا الحديث يهزّ المعنى من جذوره… فالرجل كان عابدًا، كثير الصلاة والصيام، لكنه خسر حياته الأخلاقية والاجتماعية، فتغلبت مظالم العباد على عباداته، وكانت النتيجة النار!هنا يفهم الإنسان أن العبادة لا تُختزل في سجادة وركعات، بل تشمل سلوكًا، لسانًا، وضميرًا. وأن أداء الصلاة لا يُغني عن أداء الحقوق.والتوازن نفسه نجده في الموقف الشهير بين سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما، عندما دخل سلمان على زوجة أبي ذر فوجدها رثّة الحال، فقال: ما شأنك؟قالت: ليس لأخيك حاجة في الدنيا…فهم سلمان أن أبا ذر قد غلب جانب الآخرة حتى ترك من الدنيا ما يضعف حياته وأهله، فقال له كلمته الخالدة التي أقرّها النبي ﷺ:«إن لربّك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا… فأعطِ كلّ ذي حقّ حقّه».بهذه الكلمات رسم سلمان منهج الاعتدال، وأعاد الميزان إلى وضعه الطبيعي بين العبادة والعمل والأسرة والنفس.اليوم، ما زالت هذه المشاهد تتكرر بأشكال مختلفة:– من يغرق في العمل ويهمل أسرته.– ومن يتعبد ويترك حقوق الناس وأخلاق التعامل.– ومن يجري خلف الدنيا وينسى نفسه وصحته وهدوءه الداخلي.– ومن يحسن للبعيد ويقسو على القريب.وما بين هؤلاء جميعًا يقف الإسلام ليقول:التوازن ضرورة لإنسان سويّ، ونفس مطمئنة، ومجتمع متماسك.إن أجمل ما يقدمه الإنسان لنفسه أن يعيش بميزان:يعبد الله بلا غلو…ويعمل للدنيا بلا جشع…ويعامل الناس بخلق…ويحتفظ لنفسه وبيته بحقّ لا يُهمَل.فمن أحسن سلوكه كما أحسن عبادته، وأعطى كل جانب من حياته نصيبه، هو الذي ينجو من الإفلاس الحقيقي…وهو الذي يكتب حياته بوعي، لا بردود الفعل.وفي النهاية، يبقى التوازن فنّ الحياة الذي لا يعلّمه إلا الذين فهموا الدين جيدًا… وفهموا الإنسان أكثر.الحجايا يكتب: ضرورة التوازن في حياة الإنسان
مدار الساعة ـ











