أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب مجتمع أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الهقيش يكتب: الهوية الرقمية جواز المرور إلى المستقبل


د. صخر محمد المور الهقيش

الهقيش يكتب: الهوية الرقمية جواز المرور إلى المستقبل

مدار الساعة ـ

في عالمٍ يتسارع فيه التطور التكنولوجي كوميضٍ لا يخبو، لم يعد الإنسان يعيش في فضاء واحد، بل بات يتنقّل بين الواقع الملموس والفضاء الإلكتروني الذي أصبح جزءًا أصيلًا من تفاصيل حياته اليومية. وفي قلب هذا التحوّل العميق برزت الهوية الرقمية كضرورة وطنية وفردية في آنٍ معًا، فهي البصمة الإلكترونية التي تمثّل المواطن وتعرّف به، وتمنحه القدرة على الاندماج في منظومة عصرية متصلة وآمنة، تُعد إحدى ركائز الدولة الحديثة ورؤيتها للمستقبل.

فالهوية الرقمية ليست مجرد رقم أو ملف إلكتروني، بل هي امتداد رسمي لشخص المواطن في العالم الرقمي، تتضمن بياناته الأساسية كاسمه ورقمه الوطني ومعلومات الاتصال الخاصة به، إضافة إلى سجلاته الحكومية والمالية ووسائل التحقق من شخصيته، وكل ما يستخدمه من حسابات لإنجاز معاملاته اليومية. إنها الصورة الإلكترونية التي تثبت هويته، وتمكّنه من الدخول إلى الخدمات المختلفة بسرعة ودقة وأمان، ليكون جزءًا فاعلًا من مسار التحول الرقمي الذي يشهده العالم.

ولم يأتِ الاهتمام بهذا الملف من فراغ؛ فقد أولاَه حضرة صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظّم عناية خاصة، إدراكًا منه لأهمية تعزيز مكانة الأردن في مجال التكنولوجيا، وتحديث الدولة، وترسيخ نهضتها الرقمية. وأكد جلالته في رؤاه المتعددة ضرورة الانتقال إلى بيئة رقمية متكاملة تُخفّف الأعباء عن المواطنين، وتُحقّق العدالة والشفافية، وتدعم الاقتصاد الوطني. كما يولي سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني أهمية فائقة لملف التحول الرقمي وتمكين الشباب من أدوات المستقبل، باعتباره ركيزة رئيسية في بناء اقتصاد قائم على المعرفة، ودولة حديثة توفر خدمات متساوية للجميع، وتفتح الآفاق أمام الإبداع والابتكار.

وتزداد أهمية الهوية الرقمية حين ندرك قدرتها على إعادة تنظيم العلاقة بين المواطن والمؤسسات الحكومية، وتحويل المعاملات من إجراءات تقليدية معقدة تستنزف الوقت والجهد، إلى عمليات فورية تُنجز بضغطة زر. فهي الوسيلة الأسرع للحصول على الوثائق الرسمية، وخدمات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والضريبة، وإنجاز المعاملات البنكية، وتوقيع العقود الإلكترونية، وكل ما أصبح جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية في العصر الرقمي.

كما تشكّل الهوية الرقمية درع حماية متقدمًا في زمن تتزايد فيه التهديدات الإلكترونية، إذ تعتمد على تقنيات حديثة تشمل التحقق الثنائي، والتشفير المتقدم، والذكاء الاصطناعي، بما يحدّ من مخاطر التزوير أو انتحال الشخصية، ويقلّل من الفساد الإداري عبر الحد من الاحتكاك المباشر وتعزيز الشفافية.

ورغم هذا التقدّم، تبقى الحاجة ملحّة لإطار قانوني متكامل يضبط هذه المنظومة. وهنا أجد، بوصفـي مواطنًا محبًا لوطنه وقيادته الهاشمية، ورجل قانون مدركًا لمتطلبات هذه المرحلة، أن الهوية الرقمية تحتاج إلى بنية تشريعية راسخة تحميها وتضمن موثوقيتها. ويأتي في مقدمة ذلك سنّ تشريعات حديثة تُعنى بحماية البيانات الشخصية، وتحديد مسؤوليات الجهات التي تتعامل مع البيانات الرقمية، لضمان عدم جمعها أو معالجتها دون مسوّغ قانوني واضح. كما يتطلب الأمر وضع قواعد مُلزِمة لتطبيق أعلى معايير الأمن السيبراني، وتوفير آليات تضمن إخطار المواطن بأي اختراق أو محاولة وصول غير مشروع إلى بياناته.

ومن الأهمية بمكان ترسيخ مبدأ الموافقة المستنيرة، بحيث يكون للمواطن الحق الكامل في معرفة كيفية استخدام بياناته، والغرض من جمعها، والمدة الزمنية للاحتفاظ بها، مع ضمان حقه في الاعتراض أو التصحيح أو الحذف متى استدعى الأمر ذلك. كما يستوجب الأمر إقرار نظام قانوني موحّد للتوقيع الرقمي والمعاملات الإلكترونية، يُضفي على الوثائق الرقمية قوة قانونية موازية للوثائق التقليدية، ويهيّئ بيئة تشريعية جاذبة للاستثمار في قطاع التكنولوجيا.

ومن المتطلبات التشريعية كذلك تعزيز الرقابة المستقلة على قطاع البيانات، سواء بإنشاء هيئة وطنية متخصصة أو بتوسيع صلاحيات الجهات الرقابية القائمة، بما يضمن حماية مستمرة للحقوق الرقمية للمواطن، ويمنع أي إساءة استخدام أو تجاوز يمكن أن يخلّ بثقة المجتمع بهذه المنظومة الحيوية. كما لا بد من تضمين القانون عقوبات رادعة لكل من يثبت تورطه في اختراق الهوية الرقمية أو إساءة استخدام البيانات أو الاتجار بها، حمايةً للأمن الوطني الرقمي وصونًا لكرامة الأفراد وحقوقهم.

ويُعد تعزيز الوعي القانوني لدى المواطنين عنصرًا أساسيًا في نجاح الهوية الرقمية، فالمجتمع يحتاج إلى إدراك حقوقه الرقمية وكيفية حماية معلوماته، وفهم الإجراءات القانونية المتاحة في حال التعرّض لأي انتهاك. ومن هنا تبرز ضرورة إطلاق برامج وطنية توعوية مستدامة تُعرّف الناس بآليات الاستخدام الآمن، والمخاطر المحتملة، وحقوقهم وواجباتهم في البيئة الرقمية.

وهكذا، تتجاوز الهوية الرقمية كونها مشروعًا تقنيًا إلى كونها مشروع دولة متكامل يحظى برعاية ملكية واضحة، وتمثل خطوة نوعية نحو حكومة ذكية، واقتصاد رقمي، ومجتمع متصل، ومؤسسات تقدم خدماتها بأعلى درجات الكفاءة والفاعلية. إنها عنوان لقدرة الأردن على مواكبة العصر، والمضي بثبات نحو مستقبل يقوم على المعرفة والكفاءة، ويضع المواطن في صلب العملية التطويرية.

فالهوية الرقمية هي جواز المرور الحقيقي إلى المستقبل، ومسؤولية مشتركة بين الدولة والمواطن، وجسرٌ يصل بين رؤية القيادة وطموحات الأجيال القادمة. وهي الدليل على أن الأردن يمضي بثقة في مسار التحول الرقمي، مدفوعًا بإرادة ملكية راسخة، ووعي وطني متقدّم، وطموح لا يعرف حدودًا، يعبر نحو الغد بثبات واعتزاز.

حمى الله الأردن وقيادته الهاشمية وشعبه الوفي، وحمى أجهزتنا الأمنية وجيشنا العربي المصطفوي، درع الوطن وسياجه المنيع.

مدار الساعة ـ