أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب مجتمع أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

القرالة يكتب: فوق التل.. تحت التل.. احنا رجالك وصفي التل


محمد بسام القرالة

القرالة يكتب: فوق التل.. تحت التل.. احنا رجالك وصفي التل

مدار الساعة ـ

مدار الساعة - قبل فترة، استوقفتني صورة التُقطت في ستينيات القرن الماضي في الكرك؛ ظهر فيها المرحوم (وصفي التل) بجانب المرحوم الشيخ (سالم عبدالمهدي الحباشنة)، الأخير كان يحمل مسدسه الشخصي وعصاه، بلا بروتوكولات ولا رسميات ولا مواكب تُمهّد الطريق. مجرد رجلين من أبناء الوطن، يقفان ببساطة الزمن تلك… بساطة (وصفي) التي كان يعيشها فعلاً، ويقابل بها الناس كما هم، بلا حواجز ولا طبقات ولا حرس يحيطون به.

هذه الصورة وحدها كانت كافية لتشرح لماذا بقي (وصفي) حاضرًا في الوجدان الشعبي. الرجل الذي كان يذهب إلى القرى بلا إعلان، ويجلس مع الناس بلا حواجز، ويسمعهم قبل أن يحدّثهم. هذه الصفات ليست روايات عابرة؛ بل وقائع وثّقتها الصحافة الأردنية في ذلك الزمن، وشهادات علنية نقلها الوزراء والموظفون والإعلاميون الذين عملوا معه. فقد عُرف عنه أنه يرفض المواكب الطويلة، وأنه يختار الطريق الأقرب إلى الناس، وأنه كان يرى في المسؤولية خدمة لا مظاهر.

ورغم أنني شاب في الثامنة عشرة من عمري، ولم أعاصر (وصفي التل) يوماً، وبعد "أربعة وخمسين" عاما من استشهاده ،إلا أنني نشأت على سيرة رجلٍ لم تنطفئ محبته، ولم يتراجع حضوره، ولم تهدأ قيمته في قلوب الأردنيين. سيرةٌ ظلّت تُروى كما لو أنها حدثت أمس، وكأن الرجل غاب جسدًا فقط، أما حضوره فباقٍ في كل بيتٍ يعرف معنى المواطنة ومعنى الدولة.

(وصفي التل) لم يكن مجرّد رئيس وزراء؛ كان مدرسة في الإدارة والانضباط والعمل العام. رجلٌ حمل مشروع الدولة الأردنية الحديثة بصلابة ورؤية واضحة، وتمسّك بهيبة القانون في مرحلة حسّاسة، ووقف بحزم ضد أي محاولة لخلق نفوذ موازٍ خارج الدولة. وهذه المواقف ثابتة وموثّقة في خطبه ومراسلات تلك المرحلة، وفي التحليلات التي كُتبت عنه لاحقًا.

نزاهته لم تكن شعارًا، بل ممارسة يومية. وشعبيته لم تكن دعاية، بل علاقة طبيعية نشأت من حضوره القريب، ومن فهمه العميق للناس، ومن كون المسؤولية بالنسبة إليه تكليفًا لا تشريفًا. لذلك لم يكن غريبًا أن يبقى اسمه، بعد أكثر من نصف قرن على استشهاده في القاهرة عام 1971، حاضرًا في ضمير كل أردني، صغيرًا كان أم كبيرًا.

ومن الشهادات التي بقيت تتردد، أنّ (وصفي) رحل عن الدنيا مديناً، وأنّ ديونه لم تكن امتيازات ولا مكاسب، بل أثمان بذور ومعدات زراعية كان يشتريها كل موسم ليزرع أرضه بنفسه. كانت الزراعة بالنسبة إليه جزءاً من شخصيته البسيطة والنزيهة، وجزءاً من إيمانه بأن المسؤول مهما علت مكانته ..يبقى ابن الأرض التي يخدمها. هذه الروايات، التي وثّقها مقربون منه في أحاديث صحفية بعد استشهاده، أصبحت دليلًا إضافياً على نظافة يده، وعلى أنه لم يترك خلفه مالًا ولا عقاراً، بل ترك إرثاً أخلاقياً لا يُشترى.

ومن بين كل الهتافات التي خُلّدت معه، تبقى الجملة التي تختصر هذا الإرث كله:

فوق التل… تحت التل… احنا رجالك وصفي التل.

"احنا رجالك" لأنك جعلت المسؤولية قيمة، والهيبة التزاماً، والوطن خطاً أحمر لا يُمسّ.

"احنا رجالك" لأنك بقيت رمزاً للصدق، ومثالاً للموقف، وعنواناً للرجولة السياسية النظيفة.

(وصفي التل) لم يكن رجل زمنٍ مضى… بل رجل مبدأ باقٍ.

ومبادئ الرجال لا تموت.

مدار الساعة ـ