أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات خليجيات مغاربيات دين بنوك وشركات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

عبيدات يكتب: هواء واحد وقرار مشترك.. البيئة ليست ملفا منفصلا


طارق عبيدات
مستشار وزير النقل الاسبق

عبيدات يكتب: هواء واحد وقرار مشترك.. البيئة ليست ملفا منفصلا

طارق عبيدات
طارق عبيدات
مستشار وزير النقل الاسبق
مدار الساعة ـ

أعاد النقاش الأخير حول تلوّث الهواء في عمّان وزيادة التركيز على الجسيمات الدقيقة والازدحام المروري طرح سؤالٍ أعمق من مجرد الأرقام: من المسؤول فعلاً عن الهواء الذي يتنفسه المواطن؟ وهل يكفي أن نطالب بحلول بيئية من جهة واحدة بينما القرار الفعلي موزَّع على أكثر من طاولة وأكثر من وزارة؟

من ينظر بهدوء إلى ما جرى خلال السنوات الماضية يلاحظ أن ملف البيئة لم يبق حبيس الشعارات. أصبحت لدينا شبكة وطنية لرصد جودة الهواء، وتقارير سنوية تعلن للناس مستوى التلوث في المدن، وخطط مناخية طويلة المدى تربط الأردن بالتزامات دولية واضحة في خفض الانبعاثات، وتتحدّث بصراحة عن دور قطاع النقل والطرق والتوسع العمراني في تعقيد المشكلة. بمعنى آخر، صورة الواقع لم تعد غامضة؛ الأرقام والخرائط باتت على الطاولة، وما كان يُخشى الحديث عنه أصبح مكتوبًا في وثائق رسمية ومتاحة للنقاش العام.

لكن الهواء الأنقى لا يأتي من الورق وحده. القرارات التي تحدد نوع الحافلات في شوارعنا، وشكل الطرق، وأولوية السيارات الخاصة على حساب النقل العام، لا تُتخذ داخل غرفة واحدة. عندما يُقرَّر توسيع شارع على حساب رصيف، أو إنشاء نفق جديد بدل مسرب مخصص للحافلات، أو السماح بتوسع عمراني أفقي بعيد عن ممرات النقل العام، فإن هذه القرارات – وإن لم تُذكر فيها كلمة “بيئة” – تترك أثرًا مباشرًا على جودة الهواء وحجم الازدحام والانبعاث.

لذلك، من الظلم أن نختزل المسؤولية في وزارة واحدة، أو أن نحمّل جهة بعينها عبء ما تنتجه شبكة كاملة من القرارات المتداخلة. البيئة، في جوهرها، نتيجة لسياسات النقل، وطريقة تخطيط المدن، وسلوك الطاقة، ونمط الاستثمار في البنية التحتية، قبل أن تكون فصلًا في تقرير أو فقرة في قانون.

حين تُصدر الجهات المعنية تقارير جودة الهواء وتحدّد مصادر التلوّث وتضع الأهداف العامة لخفض الانبعاثات، فهي تضع “الخريطة”. لكن تحويل هذه الخريطة إلى طريق سالك يحتاج إلى شراكة هادئة بين وزارات النقل والأشغال والبلديات والطاقة والتخطيط، ومعها أمانة عمّان والبلديات الكبرى. فقرار بسيط من جهة يختصر سنوات من العمل لدى جهة أخرى: مسرب واحد للنقل العام في شارع رئيسي قد يوفّر من الانبعاثات ما لا تحققه عشر حملات توعية، ودعمٌ مدروس للنقل الكهربائي في خطوط محددة قد يقلّل الضغط المروري في مداخل المدن أكثر من أي توسعة إسفلتية.

المرحلة المقبلة لا تحتاج إلى خطابات جديدة بقدر ما تحتاج إلى لغة مختلفة داخل الحكومة نفسها؛ لغة تعتبر جودة الهواء مؤشرًا وطنيًا مشتركًا، لا بندًا قطاعيًا. يمكن، مثلاً، أن تصبح أهداف خفض التلوّث جزءًا من مؤشرات أداء لوزارات النقل والأشغال والبلديات، لا لمؤسسة واحدة فقط. وعندما تُدرج أرقام الانبعاث والازدحام في ملفات التمويل والتخطيط كما تُدرج الكلفة والعائد، سيتحوّل البعد البيئي من “ملحق” إلى عنصر أساسي في تقييم أي مشروع طريق أو شبكة نقل.

بهذا الشكل، لا تكون الدعوة إلى منطقة خضراء تجريبية في حي من أحياء عمّان مسؤولية جهة واحدة، بل نتيجة تفاهُم هادئ بين من يخطط للطريق، ومن يشغّل الحافلة، ومن يقيس الهواء، ومن يمول المشروع. وحين يظهر نجاح التجربة على شكل شوارع أخف ازدحامًا وهواء أقل اختناقًا، سيشعر المواطن أن القرار كان مشتركًا، وأن البيئة لم تعد شعارًا خارجيًا بل جزءًا من طريقة إدارة الدولة لحياته اليومية.

ليست الفكرة أن نبحث عمن يُلام، بل أن نكتشف كيف يمكن أن يعمل الجميع في الاتجاه نفسه. فالبيئة لا تصان بخطاب منفرد، ولا تتحقق بحملة عابرة، ولا تُحمى بوزارة تعمل وحدها. ما نحتاجه اليوم هو أن نرى الهواء النظيف نتيجة طبيعية لالتقاء السياسات: عندما يجلس النقل والتخطيط والأشغال والبلديات والبيئة إلى طاولة واحدة، ويُكتَب القرار وفي ذهنهم سؤال واحد: كيف سيبدو هذا المشروع في رئة المواطن بعد عشر سنوات؟

عندها فقط، لن يعود الحديث عن البيئة دفاعًا عن جهة أو نقدًا لأخرى، بل حديثًا عن دولة قررت أن تجعل من حق الهواء النقي مسؤولية مشتركة… تُمارَس بهدوء، وتُرى بوضوح، ويشعر بها الناس قبل أن تُكتب في أي تقرير.

مدار الساعة ـ