في تاريخ الأردن رجالٌ لا يمضون إلى الغياب بل يمشون في الذاكرة كما تمشي الجذور في أعماق الأرض هادئة، صلبة، حيّة.
ومن بين هؤلاء يقف وصفي التل، ابن الفلاحين وراعي القمح، الرجل الذي لم يكن رئيس حكومة بقدر ما كان فكرة وطنية تمشي على قدمين.وليس غريبًا أن نقول: الرجال يرحلون لكنهم يعلّموننا ثقافة الابتلاع؛ ابتلاع الغصّة، غصّة الفقد، وغصّة الوجع.وصفي واحدٌ من أولئك الذين لا يرحلون؛ أو بالأحرى، يرحلون جسدًا، ويعودون روحًا في كل صباح أردني، وإني لأشم رائحة أبي ووصفي في كل عظيم في هذه البلد، في كل من يخاف عليها وعلى أبنائها.وصفي يشبه القمح في عناده، يشبه الأرض في تقشّفها، ويشبه المطر في نزاهته، كان يقول في إحدى عباراته الخالدة إن خدمة الوطن ليست شعارًا ولا منبرًا، بل عملٌ وطين وأكتاف تتعب، وكان رجلًا يعرف الطريق إلى المزارع قبل أن يعرف الطريق إلى المكاتب.كان يرى الفلاحين عماد البلاد، ويؤمن أن الأردن لا يُصان إلا حين تُصان الحقول، وأن الوطن لا تُشيّده الخطب بل سواعد الكادحين الذين يخلطون العرق بالتراب لينبت المستقبل، لذلك بقي وجه وصفي حاضرًا في كل فلاحٍ يرفع منجله، وفي كل امرأةٍ تُمسك بزيتونها كأنه ابنها، في كل رجلٍ يصحو قبل الضوء ليحرث نهاره بكرامة.وصفي لم يكن سياسيًا فحسب؛بل كان مشروعًا أخلاقيًا كان ذلك النوع من الرجال الذين يتركون خلفهم صدى طويلًا لا ينتهي باغتيال أو غياب، ولهذا يخافه الفاسدون كما يخافون الأرض التي لا تُهادن، ويخشاه المترددون كما يخشون الحقيقة حين تُقال بلا رتوش.وإذا كان التاريخ قد كتب يوم رحل وصفي سطرًا من الدم، فقد كتب الأردنيون بعده آلاف السطور من الوفاء، فالشهيد، بسيماه الصلبة ولغته التي تشبه المعاول، صار رمزًا لصورة أردنية نادرة، رجلٌ يشبه الوطن أكثر مما يشبه السياسيين.ومهما قست السنوات، تبقى رائحة الأرض شاهدة عليه؛ رائحة الحنطة التي شبّه نفسه بها، رائحة الزهر الذي آمن أنه سيعود بالنور ولو بعد حين، وصفي التل، ليس مجرد ذكرى، إنه درسٌ في أن بعض الرجال يغادرون، لكنهم يتركون في صدورنا جذورًا لا تُقتلع، وما دام في هذه البلاد فلاحٌ يرفع رأسه رغم التعب، وأمٌّ تخبز قمحها بمحبة، ورجلٌ يصرّ على النزاهة مهما ضاقت الطرق فسيظل وصفي قائمًا،كرائحة الأرض بعد المطر.وصفي التل.. خالد كما الأرض والوطن فكرة كبرى لا تموت
مدار الساعة ـ
