تبرز في الأردن مرحلة دقيقة تتطلب وعياً عميقاً بما يجري خلف الستار، لاسيما مع بدء انهيار أصحاب الإيديولوجيات الموجهة من الخارج، الذين لطالما سعوا لاختراق النسيج الوطني عبر شعارات براقة ومقولات مشبوهة تخفي خلفها أجندات لا تنتمي إلى الأرض، ولا تعبّر عن نبض الشارع الحقيقي، بل تعمل على تقويض استقرار الدولة واستنزاف مقدّراتها السياسية والاجتماعية.
لقد آن الأوان لقراءة الواقع بعين فاحصة تدرك أن التحدي لم يعد مجرد مواجهة جماعات أو تيارات، بل مواجهة نماذج فكرية هجينة، مزروعة في الجسد العربي، لا تنتمي إلى البيئة ولا تعكس حاجات المجتمعات، بل تُدار بعناية من غرف استخباراتية ومراكز دراسات خارجية تستثمر في الفوضى وتراهن على شرذمة المجتمعات من الداخل.
الأردن، بتاريخه السياسي العميق، وموقعه الجيوسياسي الحساس، أثبت مراراً أنه قادر على تجاوز هذه التحديات، لا من خلال ردات الفعل، بل من خلال سياسة واعية تُجيد قراءة اللحظة، وتحترم التوازنات، وتُبقي على الخطاب الوطني العاقل في مواجهة الخطاب التحريضي. ليست المعضلة في التنوع الفكري، بل في انعدام الانتماء لبعض الفئات ذات الانتماء الخارجي.
مطلوب اليوم أن نتعامل بحزم مع كل من يتبنى سرديات مشكوك في مرجعياتها، وأن نقطع الطريق على مشاريع التغلغل الثقافي والسياسي، التي ترتدي ثوب الحريات حيناً، وتختبئ خلف شعارات العدالة الاجتماعية حيناً آخر، لكنها في جوهرها مشاريع تفكيك وليست مشاريع بناء. ذلك لا يعني مصادرة الفكر، بل تنظيمه وتحصينه ضمن رؤية وطنية متكاملة، تعزز المشاركة السياسية على أسس وطنية خالصة لا تخضع لتمويل خارجي ولا لإملاءات مفروضة.
الشارع الأردني بحاجة إلى مشروع نهضوي وطني ويعزز من حضور الفكر الأردني الحقيقي، ذلك الفكر الذي ينطلق من هموم الناس، لا من أهواء الخارج. لا بد من عمل منهجي لتقوية البنية الفكرية والسياسية الوطنية، عبر الإعلام، والتعليم، ومنصات الحوار، وتقديم نموذج سياسي نزيه وفعّال، يُشعر المواطن أن الانخراط في الشأن العام هو امتداد لانتمائه وليس مغامرة وجودية محفوفة بالمخاطر.
نحن لا نواجه فقط أفكاراً، بل نواجه محاولات لإعادة تشكيل وعي الأفراد على أسس مضادة للانتماء، ومحاولات لخلق انفصام بين الدولة ومواطنيها. والرد يجب أن يكون فكرياً وأمنياً وسياسياً في آنٍ واحد. الأردن، إن أراد أن يحصّن ذاته، لا بد أن يذهب نحو تعميق سرديته الوطنية، وتجديد خطابه السياسي، واستعادة زمام المبادرة في إدارة الوعي العام، بعيداً عن الخطابات الارتجالية أو ردود الأفعال.
المرحلة تقتضي يقظة فكرية، وشجاعة سياسية، ووعياً جماعياً بأن ما نواجهه ليس عارضاً، بل امتداد لمرحلة طويلة من التسلل الإيديولوجي المُمنهج، الذي استغل الهشاشة الفكرية لدى البعض، واستثمر في غياب مشروع وطني بديل. وها نحن الآن أمام مفترق، إما أن ننهض بمشروع وطني جديد، قادر على الاستيعاب والمواجهة، أو نترك الساحة فارغة تُستغل من قبل من لا يؤمنون بالأردن وطناً، بل يعتبرونه محطة عبور لأجندات لا علاقة لها بالهوية أو بالكرامة الوطنية.
المعركة اليوم معركة وعي، والانتصار فيها لا يتحقق إلا عندما ننجح في إعادة تعريف المواطنة، والسياسة، والانتماء، بعيداً عن الشعارات المستوردة، وبالعودة إلى الجذر الأردني العميق، المتجذر في الأرض والتاريخ، والقادر على مواجهة العاصفة بثبات السيادة وصلابة الانتماء.