أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

محمد مختار المفتي: الطبيب الذي حمل الكرك في قلبه.. وكتب مذكّراته قبل أن يودّع الحياة

مدار الساعة,مناسبات أردنية,عبد الله بن الحسين
مدار الساعة ـ
حجم الخط

مدار الساعة - في زمنٍ كانت فيه الكلمة تُكتب بالمعاناة، والمهنة تُمارس بالإيمان، والمجتمع يرزح تحت وطأة الجهل والمرض، وقف الطبيب محمد مختار عبد الله المفتي (1893–1971) شامخًا، لا كطبيب فحسب، بل كمؤسس لوعي طبي وإنساني في جنوب الأردن، وكاتبٍ لمذكراتٍ هي شهادة حضارية على مرحلة تأسيسية من تاريخ الطب العربي الحديث.

ولد في ديار بكر، ونشأ في دمشق، وتلقى تعليمه في مدارسها، ثم انتقل إلى إسطنبول حيث درس الهندسة، قبل أن يتحول إلى دراسة الطب. خدم كضابط طبي في الجيش التركي خلال الحرب العالمية الأولى، ثم تخرّج من المعهد الطبي في دمشق في آب 1920، ليبدأ رحلته المهنية في الكرك، التي كانت آنذاك جزءًا من المملكة السورية التي أسسها الملك فيصل بن الحسين.

✦ من دمشق إلى الكرك: بداية الرحلة

وصل الطبيب المفتي إلى الكرك على صهوة جواده، بعد رحلة بالقطار من دمشق إلى القطرانة. لم يكن في انتظاره مستشفى، ولا طاقم طبي، ولا أدوات حديثة. بل كان عليه أن يبدأ من نقطة الصفر، في بيئة يغلب عليها الجهل الطبي، والممارسات الشعبية، والمشعوذون، وأصحاب التمائم.

كان هو الطبيب والصيدلاني والممرض، بل صاحب رسالة تنويرية، يقاوم الخرافة، ويؤسس لوعي صحي جديد. أجرى عمليات بسيطة بأدوات بدائية، وركّب الأدوية بنفسه لعدم وجود صيدليات، وعالج أمراض النساء والأطفال، رغم الحرج الاجتماعي الذي كان يحيط بهذه الممارسة.

✦ الطب في ظل الدولة الناشئة

بعد انتهاء العهد الفيصلي، عمل المفتي في حكومة مؤاب المحلية، ثم في حكومة إمارة شرق الأردن بعد تأسيسها عام 1921. تنقّل بين جرش والطفيلة والكرك، قبل أن يستقر فيها ويفتتح عيادته الخاصة عام 1922. وحصل على جواز سفر رسمي من حكومة الإمارة، تحت رقم (65)، ليكون من أوائل الأردنيين الذين حملوا وثيقة هوية وطنية في عهد الدولة الحديثة.

كان يتقاضى راتبًا شهريًا قدره أربعة دنانير ذهبًا عثمانيًا، ثم 1400 قرشًا مصريًا حين عُيّن رسميًا في الكرك. ومع ذلك، لم تكن الوظيفة هدفه، بل كانت وسيلة لخدمة الناس، ونشر الوعي، وممارسة الطب كرسالة أخلاقية.

✦ المذكرات: شهادة على نصف قرن من الطب والإنسانية

قبل وفاته، كتب الطبيب المفتي مذكراته بخط يده، موثقًا فيها تجربته الطويلة، ومواقفه، وتأملاته، بلغة تجمع بين السرد والتأمل، وبين العلم والروح. هذه المذكرات ليست مجرد سرد لسيرة ذاتية، بل وثيقة حضارية وإنسانية، تُضيء مرحلة تأسيسية من تاريخ الطب في الأردن.

فيها يروي كيف كان يواجه الأمراض السارية، ويُجري الحجر الصحي، ويُقنع الأهالي بضرورة العلاج، ويقطع المسافات الطويلة على ظهر جواده ليصل إلى المرضى في القرى والمضارب. يكتب عن لحظات اليأس، وعن المرضى الذين لم يكن لهم علاج، وعن الموت الذي لم يكن نهايةً بل بدايةً لتأملات أعمق.

ويقوم على تحقيق هذه المذكرات الأستاذ الدكتور محمد علي الأحمد، أستاذ التاريخ في جامعة إسطنبول، الذي يتولى مراجعتها علميًا وتاريخيًا، تمهيدًا لنشرها بوصفها وثيقة نادرة في تاريخ الطب والمجتمع الأردني.

✦ الطبيب المثقف والمربي

لم يكن المفتي طبيبًا فقط، بل كان مثقفًا موسوعيًا. درّس الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء في مدرسة الكرك الثانوية، نظرًا لقلة المدرسين. كان مولعًا بالشطرنج، ولعبها مع الملك عبد الله بن الحسين، وشغوفًا بالفلك والهندسة، ويمتلك مكتبة غنية بالكتب التركية والعربية.

كتب مؤلفات علمية منها كتاب عن أمراض الأطفال عام 1926، وبحوث في الأمراض الداخلية، لم تُنشر بعد. وكان يقرأ القرآن والحديث، ويصوم الاثنين والخميس، ويؤمن أن الصيام يُنقّي الجسد، كما يُنقّي الروح.

✦ الطب كفلسفة حياة

في مذكراته، يظهر المفتي كطبيب متأمل، يرى في كل مريض مرآةً لنفسه، وفي كل ألم درسًا في التواضع، وفي كل شفاء نعمةً تستحق الحمد. لم يكن يرى الطب علمًا جامدًا، بل موقفًا أخلاقيًا، وتجربة روحية، وفلسفة وجودية.

كان يؤمن أن الرحمة تسبق الدواء، وأن الكلمة الطيبة قد تُشفي ما لا تُشفيه العقاقير، وأن الطبيب الحقيقي هو من يحمل ضميرًا حيًا، لا من يحفظ البروتوكولات فقط.

✦ الهوية الوطنية والروحية

المفتي دمشقي الأصل، ديار بكري المولد، أردني الجنسية، لكنه كركي الهوى والانتماء. أحب الكرك، وتزوج منها، وظل فيها حتى وفاته. كان يرى فيها مهد الرجولة والتاريخ، وفي الأردن وطنًا يستحق أن يُخدم بالعلم والرحمة.

في مذكراته، يظهر اعتزازه بالهوية الأردنية، وبالبيئة المحلية، وباللغة العربية، وبالتراث الإسلامي. كان يرى في الدعاء جزءًا من العلاج، وفي الصيام وسيلة لتطهير الجسد، وفي القرآن والحديث مصدرًا للسكينة واليقين.

✦ خاتمة: الطبيب الذي سبق عصره

قضى الطبيب محمد مختار المفتي خمسين عامًا في خدمة الناس، دون أن يطلب مجدًا، أو يسعى لمنصب. كتب مذكراته قبل وفاته، لا ليُخلّد نفسه، بل ليُخلّد القيم التي آمن بها: الرحمة، الصدق، التواضع، والعلم.

إن مذكراته ليست فقط وثيقة طبية، بل سجلٌ حضاريٌ وإنسانيٌ لمرحلة تأسيسية في تاريخ الأردن، وشهادة على أن الطب الحقيقي يبدأ من القلب، ويمر بالعقل، وينتهي في ضمير الطبيب.


مدار الساعة ـ