في الوقت الذي اشتعلت فيه معركة الوعي حول فلسطين في مختلف أنحاء العالم، من الجامعات الأمريكية إلى الشوارع الأوروبية، بقيت الساحة العربية شبه صامتة، وكأنها خارج مدار هذا الصراع الوجودي على الوعي، فالصمت الشعبي ليس دليلاً على اللامبالاة، بل نتاج منظومة من القيود الرسمية والسياسية والإعلامية التي كبّلت الخطاب الحر، وحدّت من قدرة المجتمعات على التعبير عن موقفها الطبيعي من قضية هي جزء من وجدانها الجمعي
العالم ناقش فلسطين بوصفها قضية عدالة وحقوق وانسانية، بينما أُجبرت المجتمعات العربية على التعامل معها بوصفها ملفاً سياسياً حساساً يخضع لحسابات دقيقة وتوازنات خارجية لتتحوّل إلى معركة مؤجلة، حتى تتراجع قبضة الخوف وتستعيد الشعوب حقها في التعبير هذا الأمر هو ثمرة سياسة ممنهجة عبر سنوات طويلة أدركت أن أيّ وعي حي بقضية فلسطين سيقود بالضرورة إلى وعي أكبر بحقوق الشعوب وواجبات الحكوماتفمارست التكبيل من خلال تكميم المنابر الإعلامية وشيطنة الخطاب المقاوم واتهام أصحابه بالعبثيّة أو التطرف، حتى المناهج الدراسية تم تهذيبها سياسياً بحيث تُعرض قضيّة فلسطين كصفحة من الماضي لا كقضية مستمرة في الوجدان والهويةولأن الوعي لا يُقتل، وُجدت سياسة إحباط أي محاولة لبعثه، وكلما نهضت موجة تضامن أو حراك شعبي، اصطدمت بسياسة التبريد والاحتواء، خشية أن يتحول الوعي إلى مرآة يرى الناس فيها واقعهم الحقيقي، لتبقى الشعوب معلّقة بين قناعة لا تستطيع الجهر بها، وواقع لا يسمح بترجمتها على الأرضمعركة الوعي لم تنته، بل تنتظر فرصة إشعالها لتتجاوز أدوات السلطة وحدودها، بعد أن انفتح الفضاء الرقمي أمام الأفراد والمثقفين والإعلاميين الأحرار ليعيدوا صياغة الخطاب خارج الأطر الرسميةأن هذه المعركة تواجه تحديات ليس أبرزها القيود الرسمية فحسب، بل أيضاً بفعل استراتيجيات التضليل الحديثة، ففي عصر فائض المعلومات، تحول التحدي من نقص المعلومة إلى إغراقها في روايات متناقضة تواجه أي محاولة لبعث الوعي بحملات تشويه ممنهجة، وخطاب واقعي يستسلم للهيمنة، وضجيج يَصُم الآذان، ولم تعد المعركة ضد الصمت فقط، بل أصبحت ضد الفوضى المصمَّمة لإرباك الوعي وتضليله رغم هذه التحديات، فإن هناك بصيص أمل مُشرق مع بروز بعض الأصوات الحرة في منصات إعلامية مستقلة ومساحات رقمية آمنة ومبادرات شبابية، تثبّت عزم الجماهير الحقيقية، وإن كانت لا تزال محدودة التأثير أمام آلة التضليل الهائلة، إلا أنها تشكل نواة لمقاومة الوعي، تؤكّد أن الشعوب حين تُمنح مساحة حقيقية للتعبير، فإن موقفها يكون واضحاً لا لبس فيهإن المثقف الحقيقي هو من يدرك أن معركة فلسطين لم تعد معركة حدود وأرض فقط، بل معركة وعي وكرامة وذاكرة، وأن الدفاع عنها هو دفاع عن معنى الانسانيه في هذا الجزء من العالم، لذلك، فإن دوره اليوم يتعدى الكتابة والخطابة إلى مواجهة آلات التضليل وتنقية الفضاء المعلوماتي، وتقديم أدوات التفكير النقدي التي تُحصّن العقل من الاختراق والتشويش لأن الحقيقة هي آخر معاقل الحرية، ومن يصونها يصون الوعي ذاته إن رحى معركة الوعي لم تتوقّف، لكنها اختُطفت، وما على الأحرار إلا أن ينتزعوها من قبضة الخوف، ليتم توجيهها نحو هدفها الأصيل "تحرير الإنسان قبل الأرض"