تواجه الكثير من الجامعات الرسمية الأردنية منذ أكثر من عقد أزمة مالية خانقة تتفاقم عامًا بعد عام، إذ تجاوزت مديونيات بعض الجامعات عشرات الملايين من الدنانير، في ظلّ ضعف الدعم الحكومي، وتراجع الإيرادات الذاتية، وزيادة النفقات التشغيلية، إضافة إلى بعض القصور في خطط الإدارة المالية طويلة وقصيرة المدى.
هذه الأزمة لا تهدد فقط استمرار بعض الجامعات في أداء رسالتها، بل تمسّ جودة التعليم العالي واستقراره كمكوّن رئيس في التنمية الوطنية، وتهدد قدرة الجامعات على أداء وظائفها التعليمية والبحثية والخدمية. تعتمد الجامعات الرسمية الأردنية على عدد محدود من مصادر الدخل، أبرزها الرسوم الدراسية للطلبة النظاميين والبرامج الموازية والدولية، غير أن مجموع الإيرادات الذاتية لبعض هذه الجامعات لا يغطي حتى النفقات الرأسمالية المتكررة.أسباب العجز المالي والمديونية العالية للجامعات1. الرسوم الدراسية: لقد تبنت الجامعات في بداياتها رسوماً دراسية لا تغطي النفقات الحقيقية للطلبة، حيث كان المنطق آنذاك أن الفارق يغطى من الدعم الحكومي والرسوم التي كانت تُحصَّل لصالح الجامعات في الوقت الذي كان عدد الجامعات الرسمية قليلا. بقيت الكثير من هذه الرسوم منخفضة ولا تغطي التكلفة وتناقص الدعم الحكومي، فأصبحت الجامعات بين خيارين: المديونية أو رفع الرسوم الجامعية على الطلبة في البرامج العادية لتغطية النفقات والذي اعتبره الكثيرون قراراً غير شعبوي للأوضاع الصعبة للناس. وتشير بعض الدراسات إلى أن كلفة الطالب الجامعي في معظم التخصصات تتجاوز 1800 دينار سنويًا، بينما متوسط ما يدفعه الطالب لا يتعدى 800–1000 دينار، أي أن الجامعات تتحمل عجزًا يتجاوز 40–50% لكل طالب. وتكمن المعضلة هنا أن تكلفة التعليم الجامعي في انظمة العالم المختلفة إما الدولة أو الطلبة أنفسهم، أما في حالتنا فلا الرسوم تغطي التكلفة الحقيقية للتعليم ولا الدولة تدفع الرسوم او الفرق بين رسوم الطلبة والتكلفة الحقيقية.2. تناقص الدعم الحكومي: تقلصت موازنة الدعم المباشر للجامعات الرسمية، حيث بلغت نحو 75-80 مليون دينار، يصرف منها حوالي 40% لتغطية منح وقروض الطلبة المحتاجين، ويوزع الباقي على الجامعات العشر وفق معايير محددة، منها الظروف المالية الصعبة لجامعات الأطراف، مما يعني عدم كفاية هذا الدعم بكل المقاييس.3. ضعف مشاريع الاستثمار: حاولت الكثير من الجامعات الأردنية تقليد تجربة الجامعات الأجنبية غير الربحية في تحقيق عائدات مالية من الاستثمار. وبالرغم من بعض النجاحات الصغيرة، فإن معظم هذه المشاريع واجهت إخفاقًا بسبب غياب الخبرة الاقتصادية، وضعف المتابعة، وإدارة المشاريع بعقلية أكاديمية أكثر منها اقتصادية، ما فاقم المشكلة المالية لبعض الجامعات. وعمومًا، لا أرى أن الاستثمار التجاري في منظومة الجامعات الرسمية هو الحل لمشكلة العجز المالي أو المديونية.4. المنح والمشاريع الدولية: نصيب الجامعات الرسمية من المنح والمشاريع الدولية محدود جدًا وهو غالبًا ما ينفق على البنى التحتية من مبانٍ وتجهيزات ومختبرات ولا يدخل في موازنات الجامعات التشغيلية.5. برامج التعليم المستمر والبرامج غير الأكاديمية: تقدم جميع الجامعات الرسمية برامج تدريبية مثل الدبلومات التدريبية أو تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، لكنها تبقى مبالغ محدودة لا تغطي سوى جزء يسير من العجز السنوي في الموازنة.6. تكلفة المسؤولية الاجتماعية ماليا على الجامعات: تعاني العديد من الجامعات الرسمية من تحمل نفقات التعليم وفق التشريعات والقوانين النافذة، مما يحملها أعباء مالية كبيرة لا تصل حتى إلى قيمة الدعم الحكومي. ولست هنا أدعوا إلى إلغاء هذه المسؤولية الوطنية، بل إلى تعزيز دعم الدولة والمجتمع للجامعات لتمكينها من الاستمرار في أداء هذا الدور.7. سياسات الاعتماد وتجميد البرامج: تواجه بعض الجامعات الرسمية مشاكل في استمرارية اعتماد برامجها الأكاديمية لأسباب تتعلق بالطاقة الاستيعابية أو بعدم القدرة على تعيين أعضاء هيئة تدريس كافين، مما يؤدي إلى تجميد القبول في بعض البرامج وبالتالي انخفاض في الإيرادات وتفاقم العجز المالي السنوي.8. انخفاض أعداد الطلبة في البرامج الموازية والدولية: استنادًا إلى توجهات الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية وقرارات مجلس التعليم العالي، تم إلزام الجامعات بألا تتجاوز نسبة الطلبة المقبولين في البرامج الموازية 30% من إجمالي الطلبة، كما تناقصت أعداد الطلبة غير الاردنيين في البرامج الدولية بسبب التنافسية الإقليمية.9. التأخر في تحصيل مستحقات الجامعة: هنالك تأخير كبير في تحصيل الجامعات الرسمية لمستحقاتها لدى الدولة جراء المكرمات والقروض والمنح، مما يجبرها على الاستدانة من البنوك لتغطية النفقات الرأسمالية المتكررة، خصوصًا الرواتب، وهو ما يزيد من عجزها السنوي ومديونياتها.10. فوائد ورسوم البنوك العالية: تعاني العديد من الجامعات من الفوائد والرسوم العالية المترتبة على حساباتها (الجاري مدين) مما يفاقم من عجزها السنوي ومديونياتها.11. عدم فعالية الإدارات المالية: العديد من الجامعات لا تملك سياسات مالية لإدارة الإيرادات والنفقات وفق خطط زمنية تراعي أوقات تدفق الإيرادات لضمان عدم الحاجة الى الاستدانة من البنوك لتغطية الرواتب .12. ضعف سياسة التعيينات الأكاديمية: تعاني بعض الأقسام من فائض في أعضاء هيئة التدريس مقابل أقسام أخرى تعاني عجزًا حادًا، مما يستدعي إعادة النظر في سياسات التعيين وربطها بحاجات السوق وشروط الاعتماد والجدوى الاقتصادية للبرامج. وهذه ليست دعوة إلى إغلاق البرامج بل إلى إعادة هيكلتها بما يضمن استدامتها.13. ضعف في سياسات النفقات التشغيلية: ينبغي أن تلجأ الجامعات الرسمية إلى أساليب أكثر ابتكارًا لتغطية نفقاتها التشغيلية، بنسبة تتراوح بين 15-20% من الموازنة، مع التخفيف من القيود الإدارية في المشتريات والعطاءات مع الحفاظ على معايير النزاهة والمساءلة.التحديات المترتبة على مديونية الجامعاتهنالك آثار مباشرة وأخرى بعيدة المدى، منها:1. تراجع قدرة الجامعات على تخريج طلبة يمتلكون المهارات والكفايات المطلوبة لسوق العمل.2. ضعف القدرة على استقطاب كفاءات تدريسية عالية المستوى.3. تأكل رواتب العاملين مقارنة بارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع في دخل العاملين من البرامج الموازية والدولية لانخفاض ايراداتها.4. عدم القدرة على تطوير البنية التحتية للمرافق والمختبرات وقاعات التدريس وخدمات قواعد البيانات البحثية.5. تراجع الخدمات الإدراية والفنية المقدمة للطلبة والعاملين.6. لجوء بعض الجامعات إلى تحميل الطلبة والعاملين جزءًا من كلفة التعليم.7. تراجع سمعة الجامعات محليًا وإقليميًا.8. تراجع القدرة التنافسية في البحث العلمي والاعتمادات الدولية والتصنيفات العالمية وشهادات الجودة لانها تحتاج الى كلف مالية.أفكار وحلول للازمات المالية للجامعاتالحلول للمشاكل المالية ليست عملية سهلة وتحتاج إلى خطط استراتيجية قصيرة وطويلة المدى ومزيد من الصبر والشجاعة من قيادات الجامعة ومجالسها، ونظرة ثاقبة من أصحاب القرار لأن تحسين مخرجات التعليم هو احد موارد وقوة الدولة الاردنية . هذه مجرد أفكار، بعضها قد لا يسوغ الى الجميع، ولكن آمل أن ينظر ويحكم عليها كمحاولة عصف ذهني خارج الصندوق التقليدي:1. دعم الجامعات هو هدف استراتيجي للدولة الاردنية ويمكن زيادة الدعم الحكومي للجامعات بطرق مباشرة أو غير مباشرة من خلال رسوم رمزية للمستفيدين من خدمات التعليم، أو دفع مديونية الجامعات لمرة واحدة من خلال منح دولية أو مؤسسات وطنية، أو إطلاق صندوق وطني لدعم الجامعات الرسمية بشراكة بين القطاعين العام والخاص لاعطاء هذه الجامعات فرصة جديدة وحقيقية.2. رفع الرسوم الجامعية لتغطي التكلفة الحقيقية للطالب في حالة عدم توفر مقترحات البند الاول لأن جهة ما يجب أن تتحمل الفرق بين الرسوم الحالية للطلبة وكلفة التعليم الجامعي.3. تفعيل الإدارات المالية للجامعات لتعمل بطرق استراتيجية وابداعية (التفكير خارج الصندوق).4. تفعيل الشراكات مع القطاع الخاص المحلي والدولي والبرامج المشتركة بين الجامعات الرسمية والخاصة بما في ذلك استثمار مباني ومرافق الجامعة للقطاع الخاص.5. تعزيز كفاءة الإنفاق من خلال التحول إلى الطاقة المتجددة ومشاريع الاكتفاء الذاتي والمشتريات المباشرة وتفعيل دور دوائر الجامعة الفنية والحوكمة الالكترونية لتصبح أكثر انتاجية وأقل تكلفة.6. اجراء دراسات جدوى اقتصادية لجميع برامج الجامعة والعمل على إعادة النظر في البرامج ضعيفة الجدوى من خلال تحويل مسارها إلى برامج منتجة وخصوصا في ظل التحولات الرقمية والتقنية التي يشهدها العالم.7. التوسع في البرامج التقنية والمهنية على مستوى الدبلوم والبكالوريس.8. عدم المبالغة بالتركيز والانفاق العالي على موضوع تصنيف الجامعات كما فعلت مؤخرا بعض الجامعات الاردنية التي انسحبت من بعض هذه التصنيفات والتركيز أكثر على خطط الجودة الذاتية والداخلية والتي تضمن مخرجات أفضل للتعليم.9. رفع نسب المواد التي تدرس عن بعد لتقليل الكلفة على بعض الجامعات والطلبة وفتح برامج مسائية لمرحلة البكالوريس كما كان شائعا في التسعينيات من القرن الماضي.10. اصلاحات تشريعية تشمل تعديل قانون الجامعات الاردنية فيما يتعلق بالتدريس في مكاتب الارتباط أو الفروع وفق ضوابط مهنية وأخلاقية، وفك الارتباط بين الجامعات وأنظمة المشتريات الحكومية للمشاريع الكبيرة.11. تعزيز ثقافة الكفاءة المالية والتخطيط الاستراتيجي في مجالس الجامعة وتفعيل دور مجالس الامناء في تحسين الوضع المالي للجامعات بحيث تصبح احد مهامه الرئيسة.الخاتمةإن إنقاذ العديد من الجامعات الرسمية الأردنية من أزمتها المالية لم يعد خيارًا مؤجّلًا، بل ضرورة وطنية عاجلة لحماية منظومة التعليم العالي. ومع ذلك، فإن الإصلاح المالي لا يتحقق بزيادة الدعم فقط، بل ببناء ثقافة مالية مؤسسية تقوم على الكفاءة والشفافية والتخطيط طويل المدى. إن الإصلاح الحقيقي يتطلب رؤية جديدة تجعل من الجامعة مؤسسة منتجة، تعتمد على كفاءتها وإبداعها. وأنا على يقين بأن الإدارة المالية السليمة والتخطيط الواعي كفيلان بوقف هذه الأزمات وتمكين الجامعات من أداء رسالتها التعليمية والبحثية والمجتمعية على أكمل وجه.العتوم يكشف: هذه أسباب مديونية الجامعات الرسمية الأردنية.. وتحديات الاستدامة والحلول
ا.د. عدنان العتوم
العتوم يكشف: هذه أسباب مديونية الجامعات الرسمية الأردنية.. وتحديات الاستدامة والحلول
مدار الساعة ـ