مدار الساعة - بقلم: طارق راتب عبيدات - يشهد الأردن اليوم مرحلة حاسمة في تطوير منظومة النقل العام. فمشروع الباص السريع في عمّان والزرقاء لم يعد تجربة محدودة، بل أصبح نموذجًا ناجحًا أثبت قدرته على تخفيف الازدحام وتوفير وسيلة نقل منظمة يعتمد عليها المواطن يوميًا. ومع اقتراب طرح عطاء التشغيل الرسمي للمشروع، يبرز سؤال جوهري: هل سنبني على هذا النجاح بعقد عصري ذكي، أم نعود إلى إدارة تقليدية تُضعف التجربة وتحدّ من تطورها؟
العقد المنتظر ليس تفصيلًا إداريًا عابرًا، بل وثيقة تحدّد مستقبل النقل العام في المملكة لسنوات قادمة. فهو يُنظّم العلاقة بين الجهات الحكومية المعنية (أمانة عمّان الكبرى، وهيئة تنظيم النقل البري، ووزارة النقل) وبين الشركة المشغّلة التي ستتولى التشغيل والإدارة. في هذا الإطار، يجب أن يقوم العقد على مبدأ الأداء مقابل الأجر، بحيث تُسدَّد الدفعات الشهرية للمشغّل بناءً على مؤشرات دقيقة تشمل انتظام الرحلات، ودقة المواعيد، وجاهزية الحافلات، ومستوى الخدمة الفعلية المقدَّمة للمواطنين لا أن نكرر تجربة دعم أجور طلبة الجامعات الرسمية الحالية المرتبطة بعدد الطلاب أو عدد الرحلات عبر المحافظات بحيث أنها لا تعبر عن واقع الحال و لا تمت للدقة بصلة.هذا الأسلوب ليس جديدًا عالميًا؛ فقد طُبّق في مدن كـ مدريد وسنغافورة وفانكوفر، حيث أصبحت عقود النقل العام أداةً لتحسين الخدمة لا مجرد اتفاق مالي. في هذه المدن، يحصل المشغّل على مكافآت عندما يقدّم أداءً متميزًا، ويُخصم من دفعاته عند تراجع الجودة. النتيجة كانت نقلًا عامًا أكثر انضباطًا وثقة لدى المواطنين.أما في الأردن، فقد أثبتت تجربة الباص السريع نجاحها بالأرقام. فالنظام يعمل على ممرات مخصصة بطول يتجاوز 32 كيلومترًا داخل العاصمة، وينقل أكثر من 60,000 راكب يوميًا، أي ما يقارب 18 مليون رحلة سنويًا. ومع تشغيل خط عمّان–الزرقاء في عام 2024، ارتفع عدد الركاب بنسبة 35% تقريبًا، مما يعكس إقبال الناس وثقتهم المتزايدة بالنقل العام عندما يكون منظمًا ودقيقًا. هذه المؤشرات تشكّل أساسًا قويًا للانتقال إلى تشغيل مؤسسي مستدام بعقد واضح المعايير والمساءلة.لكن تطوير النقل العام لا يقف عند التشغيل والكفاءة فقط، بل يمتد نحو التحول البيئي. فالحافلات الخضراء ( سواء الكهربائية أو الهجينة ) أصبحت خيارًا واقعيًا تتبناه مدن العالم الكبرى لتقليل الانبعاثات وتحسين جودة الهواء. ففي لندن، تشكّل الحافلات الكهربائية اليوم نحو 25% من الأسطول، ما وفّر أكثر من 60 مليون لتر من وقود الديزل سنويًا، بينما حقّقت دبي من خلال إدخال الحافلات الخضراء خفضًا في استهلاك الطاقة بنسبة 69% وتراجعًا في كلفة التشغيل بنحو 30% خلال خمس سنوات.اعتماد مسار مشابه في الأردن سيحقق أثرًا ملموسًا. فلو تم تحويل 50% من أسطول الباص السريع إلى الكهرباء بحلول عام 2030، يمكن خفض الانبعاثات بأكثر من 80,000 طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًا، وتوفير ما يقارب 100 مليون لتر من الوقود خلال خمس سنوات، إضافة إلى تقليل الضوضاء وتحسين جودة الحياة في المدن الرئيسية في المملكة.بهذا المفهوم، يصبح العقد القادم ليس مجرد اتفاق تشغيلي، بل منظومة اقتصادية وبيئية متكاملة. فالشركة المشغِّلة ستكون مطالَبة بتقديم تقارير شهرية رقمية حول الأداء، تشمل عدد الرحلات، نسبة الالتزام، والأعطال التشغيلية، على أن تقوم أمانة عمّان وهيئة تنظيم النقل البري بتحليل البيانات ومراجعتها ومحاسبة المشغّل وفقها. هذه الصيغة تُحوّل العلاقة بين الحكومة والمشغّل إلى شراكة تقوم على الشفافية والمساءلة، وتجعل المواطن هو المستفيد الأول من كفاءة الخدمة واستدامتها.إن رؤية التحديث الاقتصادي 2033 وخطة النقل 2024–2028 وضعتا النقل المستدام والطاقة النظيفة ضمن أولويات الدولة. والعطاء القادم هو فرصة حقيقية لترجمة هذه الرؤية على أرض الواقع. فحين يُكتب في بنود العطاء “عقد تشغيل ذكي بحافلات خضراء”، فإننا لا نكتب بندًا فنيًا، بل نرسم اتجاهًا وطنيًا جديدًا يقوم على الكفاءة، والمساءلة، والبيئة المستدامة.النقل العام ليس وسيلة للانتقال فحسب، بل مرآة لمدى كفاءة الإدارة العامة واحترامها لزمن المواطن وحقه في خدمة تليق به. وعندما تصبح حافلاتنا خضراء، وشوارعنا أكثر هدوءًا، وهواؤنا أنقى، سنعرف أن التغيير الحقيقي لم يبدأ من الطريق… بل من عقد كُتب بوعي ومسؤولية، يعكس إرادة دولة تعرف أين تتجه.عقد تشغيل ذكي… وحافلات خضراء: معايير يجب أن تُكتب في العطاءات
مدار الساعة ـ



