د. عاطف القاسم - من الضروري أولاً الاعتراض على استخدام مصطلح “العنوسة” لما يحمله من أحكام اجتماعية جارحة وانتقاص من المرأة والرجل على حدّ سواء، فالمصطلح تراثي تقليلي لا يعكس واقع تأخر سن الزواج في العصر الحديث ولا أسبابه أو تعقيداته. الحديث العلمي الرصين يستبدل هذا التعبير بمصطلحات أكثر إنصافاً مثل “تأخر سن الزواج”، لأنها تصف ظاهرة اجتماعية لا قيمة فردية.
وفي هذا السياق، جاء طرح الكاتبة العياصرة لمعالجة الظاهرة عبر الدعوة إلى تعدد الزوجات، وهو طرح يختزل قضية مركّبة في حل واحد، متجاوزاً شبكة العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أنتجت هذا الواقع. إن تعدد الزوجات، مهما اختلفت المواقف منه، ليس قادراً على معالجة الجذور العميقة التي تسببت بتراجع نسب الزواج، بل قد يزيد العبء على الأُسر ويضاعف التحديات بدلاً من الحد منها.العامل الأكثر تأثيراً في تأخر سن الزواج هو الوضع الاقتصادي الضاغط الذي يعاني منه الشباب. فتكلفة السكن والمهر والتهيئة الأولية للحياة الزوجية تفوق قدرة كثيرين، بحيث يجد الشاب نفسه عاجزاً عن الزواج الأول أصلاً، فكيف يمكن اقتراح الزواج الثاني كحل بينما العائق الرئيس اقتصادي بحت؟ إن تجاهل هذا البعد يحوّل النقاش إلى إطار نظري لا يلامس واقع الناس.يضاف إلى ذلك أن المظاهر الاجتماعية المبالغ فيها رفعت سقف التكاليف إلى حدود غير واقعية، بدءاً من المهور المرتفعة وصولاً إلى حفلات الأعراس باهظة الثمن، وما بينها من اشتراطات شكلية لا علاقة لها بجوهر الزواج. وبذلك تحوّلت المؤسسة الأسرية من خطوة طبيعية إلى مشروع اقتصادي مرهق، فتراجع الإقبال عليها لدى الطرفين. معالجة هذه الثقافة أولى من طرح حلول سطحية لا تمسّ لب المشكلة.كما تلعب العوامل النفسية والتربوية دوراً محورياً في الظاهرة. فمجتمعات اليوم تشهد ازدياداً في القلق المرتبط بالاستقرار العاطفي والخوف من الفشل الأسري، إضافة إلى تغيّر أولويات الجيل الجديد وارتفاع سقف توقعاته في الشريك والحياة الزوجية. هذه الجوانب تحتاج إلى دعم وإرشاد وتأهيل ومراجعات تربوية، لا إلى توسيع دائرة الزواج من دون تهيئة أو استعداد.ولا يمكن تجاهل تأثير العوامل الدخيلة على ثقافة المجتمع، حيث تدفع وسائل التواصل الاجتماعي باتجاه معايير غير واقعية في اختيار الشريك، وتعزز ثقافة المقارنات والمثالية المفرطة، ما يسهم في تأجيل الزواج طوعاً أحياناً أو بدافع عدم الرضا عن الخيارات المتاحة. إن هذه التحولات الثقافية العميقة لا تُحل بتعدد الزوجات، بل بتأهيل الأفراد للتعامل مع الواقع بعيداً عن الصور المصطنعة.من منظور اجتماعي وعملي، فإن تعدد الزوجات لم يثبت يوماً أنه حل فعّال لخفض نسب تأخر الزواج. الواقع يشير إلى أن نسبة الرجال القادرين اقتصادياً ونفسياً على إدارة أكثر من علاقة زوجية بشكل عادل واستقرار مالي محدودة للغاية، وفي المقابل فإن التعدد قد يؤدي إلى تفكك أسري أو صراعات داخل الأسرة أو أعباء مالية إضافية تزيد الوضع تعقيداً.معالجة الظاهرة تتطلب رؤية واقعية شاملة تبدأ بإصلاح البيئة الاقتصادية، وتغيير الثقافة السائدة حول تكاليف الزواج، وتعزيز الوعي النفسي والتربوي، وتشجيع نماذج زواج متوازنة وبسيطة تستند إلى المودة والمسؤولية وليس إلى المظاهر. أما الحلول الاختزالية التي تتجاهل الجوهر لصالح معالجة شكلية، فلن تنتج سوى مزيد من الجدل دون أثر حقيقي.إن تأخر سن الزواج قضية اجتماعية قابلة للحل، لكنها تحتاج شجاعة في مواجهة الأسباب الحقيقية، لا الهروب نحو حلول ظاهرية. المجتمع لا يحتاج إلى تعدد في الزوجات بقدر ما يحتاج إلى تعدد في البدائل الاقتصادية، وتعدد في فرص العمل، وتعدد في برامج الدعم، وتعدد في المبادرات التي تمنح الشباب القدرة على بدء حياة مستقرة. بهذه المقاربة فقط يمكن معالجة الظاهرة من جذورها، وبناء مستقبل اجتماعي أكثر توازناً وعدلاً.في الرد على الكاتبة العياصرة.. القاسم يكتب: تعدد الزوجات ليس حلاً… معالجة الظاهرة تحتاج حلاً أعمق
مدار الساعة ـ











