أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جاهات واعراس جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

كيف غيرت الشاشة مجرى الصحافة الأردنية.. من حبر الورق إلى نهر رقمي

مدار الساعة,مناسبات أردنية,قضايا أردنية
مدار الساعة ـ
حجم الخط

مدار الساعة - كتب: فراس الحديدي - كنت هناك. في غرفة أخبار «الرأي» حين يرن الهاتف مثل منبه لا يعرف النوم، وقصاصات الوكالات تنهمر على الطاولة بخفة، كان العنوان يولد بعد مراحل عسيرة لا دقائق من الاندفاع.

تعلمت أن الخبر لا يُكتب بسرعة الأصابع، بل ببطء الشك. وأن القيم الصحفية ليست فيما تنشره، بل في ما نختار تأجيله حتى يكتمل اليقين. ذلك كان العالم الأول.

ثم انعطف النهر. لم يتبدل الماء، لكن المجرى تغير. شاشة إدارة محتوى بدلا من ماكينة صف، لوحة تحكم تعرض حركة القراء لحظة بلحظة بدلا من حدس التوزيع الورقي، إشعار عاجل على الهاتف المحمول بدلا من جرس المطبعة.

اكتشفت أن الصحافة لم تغير روحها، لكنها استعارت أدوات جديدة لتصل في وقت أقرب وبطرق أكثر مرونة. كنت شاهدا على العالمين.

في مطلع السبعينات، كانت «الرأي» قاعدة الهرم للصحافة الورقية في الأردن. منها تخرج جيل صاغ الخبر على نار هادئة وتحمل فواتير التحقق، وبنى لغة تحريرية متينة.

وفي التسعينات، ازدهرت الصحف الأسبوعية الجريئة مثل «شيحان» رياض الحروب، و«البلاد» نايف الطورة، و«الحدث» نضال منصور ورجا طلب، ففتحت مجالا للتمرّن على الحدة والعمق، وقدّمت للصحفيين منصة لتوسيع المساحة المهنية خارج الإيقاع اليومي.

ثم جاءت سنوات الانعطاف، ما بين 2006 و2008. في تلك الفترة، بدأ جيلنا نفسه، جيل «الرأي»، يشقّ طريقا جديدا في الصحافة الأردنية، عبر الشاشة لا الورق.

رأيت بأم عيني زملائي في التحرير ينقلون تقاليد المهنة من صفحات الجريدة إلى واجهات المواقع الإلكترونية. سمير الحياري، أسّس «عمون» وفتح أول نافذة جادّة على الصحافة الرقمية.

وهاشم الخالدي، بعد تجربة قصيرة في الصحف الأسبوعية، أطلق «سرايا» بروح جريئة وملتصقة بالشارع. أما غيث العضايلة، فقد كان من أوائل من فهموا إيقاع الشاشة، وشارك محمد الحوامدة في تأسيس موقع «خبرني» الذي مزج بين العمق والسرعة.

طايل الضامن، أطلق «السوسنة» ليحمل معه حسّ الميدان إلى الفضاء الرقمي. ثم عواد الخلايلة، أسّس «مدار الساعة» على النهج ذاته، متسلحا بما تربى عليه في مدرسة «الرأي».

كلهم كانوا معنا. كلهم خرجوا من غرفة الأخبار نفسها، من المطبخ ذاته. لم تكن الرقمنة هروبا من الورق، بل امتدادا له، ومحاولة لإعادة تعريف الصحافة بنفس المبادئ، ولكن بأدوات أكثر رشاقة.

مع بداية العقد التالي، بدأ المشهد يتحول من فوضى البدايات إلى تنظيم العلاقة بين المنصات والمعايير المهنية. المؤسسات الورقية دخلت إلى الإنترنت بتصميمات جديدة، حاملة ذاكرتها التحريرية إلى بيئة رقمية مختلفة.

صار التعايش هو العنوان. الورقي يحافظ على دوره المرجعي، والرقمي يوسّع الجمهور والإيقاع، ويقدّم أشكالا جديدة من التفاعل والسرد.

ما تغيّر أولا هو الزمن. لم يعد الخبر كتلة صلبة تصدر صباحا، بل أصبح مسارا يتشكّل أمام القارئ: تحديث أول، ثم تفاصيل إضافية، فنفي أو تأكيد، وبعدها قصة تفسيرية تعيد ترتيب المشهد. العنوان بات يتنفس، والفقرة الأولى أصبحت تتواضع أمام الوقائع المتدفقة.

ثم تغيّرت بنية النشر. لم تعد هناك صفحة أخيرة، بل واجهة حيّة تتغيّر كل دقيقة. لم يعد النشر نهاية الرحلة، بل بدايتها. أدوات القياس دخلت غرفة الأخبار: زمن البقاء، تفاعل القرّاء، مصادر الزيارة، واختبار العنوان. ولد من هذا عقل جديد: تحرير البيانات، وتحرير المنصة، وفرق تراقب الأداء لحظة بلحظة.

حتى شكل السرد تغيّر. النص لم يعد الشكل الوحيد. الصورة أصبحت وثيقة، الفيديو تحوّل من ملحق إلى قلب القصة، والخرائط التفاعلية والبيانات صارت مادة خام توازي الاقتباس. الإعلام أصبح صوتا وصورة وبيانا، لا مجرد حروف.

وتغير أيضا موقع الجمهور. لم يعد محطة الوصول، بل طرفا في إنتاج المعنى. التعليقات، التصحيحات، الرسائل، كلها باتت جزءا من دورة الخبر. كل زيادة في القرب من القارئ تطلبت زيادة في الدقة.

لكن رغم كل هذا، بقيت القيم. التحقق قبل السبق. الإنصاف قبل العنوان. المسافة المهنية عن الحماسة الشخصية. بقيت اللغة ميزانا، والقاعدة الأخلاقية التي تعلّمناها على الورق صالحة تماما للشاشة.

في الورقي كنا نكتب ثم ننشر. في الرقمي نكتب، ننشر، ثم نعيد الكتابة. ظهرت أدوار جديدة: محرر جودة، مدير جمهور، صحفي بيانات. إدارة اليوم أصبحت عملية تفاعلية لا خطية، تبدأ بفكرة وتنتهي بقصة يتم تحديثها مرارا، كلما وصلت معلومة جديدة.

أدركت أن الأداة لا تحكم المهنة. من يقول إن الصحافة الورقية غير الصحافة الرقمية، يخلط بين الوسيط والفكرة. الورق قناة نهرية قديمة تمنح اتزانا وعمقا، والشاشة قناة جديدة تمنح سرعة وتواصلا فوريا. لكن الماء هو نفسه: خبر دقيق، وسياق واضح، ومسؤولية تحرس كل كلمة.

وفي كلتا الحالتين، كانت نقابة الصحفيين – التي يقودها اليوم مجلسها الحالي المنتخب في نيسان 2025 برئاسة الزميل طارق المومني– هي المرجع والخط الفاصل، مرتكزة على قانونها لتنظيم المهنة وحماية الأعضاء. ليست مجرد هيئة إدارية، بل ميثاق أخلاقي يضمن مسؤولية رئيس التحرير، وحق الرد، وسياسة نشر واضحة، ومراجعة داخلية تحترم القارئ أكثر مما ترضي الخوارزميات؛ كما في إنجازاته الحديثة، من إقرار برنامج عمل 2025-2028 لتطوير المنصات الرقمية إلى تشكيل لجان لمكافحة الفوضى الإلكترونية في تشرين الثاني 2025، مما يوثق انتقال الصحافة الأردنية بسلاسة من الورق إلى النهر الرقمي.

أنا واحد من جيل شم رائحة الحبر، ثم رأى كيف أصبحت الإشعارات تسبق القهوة الصباحية. رأيت زملائي يقودون المنصات الرقمية بروح الصحافة الورقية. لم يتركوا تقاليدهم خلفهم، بل حملوها معهم ومحصوها في بيئة جديدة. وتعلّمت معهم أن العاجل لا يعفي من السؤال، وأن الامتناع عن النشر أحيانا أعظم من النشر نفسه.

إن الجدل اليوم لم يعد بين بقاء الورق أو فناءه، بل عن بقاء المعايير المهنية وسط فوضى الأدوات. الصحافة الأردنية أعطت مثالا على انتقال سليم: جيل من الورق بنى رقما دقيقا لا يركض خلف الإثارة، بل يحمل القارئ إلى الفهم.

الصحافة نهر واحد غير مجراه. الماء هو الخبر، والمجرى هو الوسيط. التقنية قد تغير القناة، توسّع الضفاف، وتمنحنا أدوات أقوى، لكنها لا تصنع الماء. نحن من يصنعه، حين نسمي الأشياء بأسمائها، ونرتب الوقائع في سياقها، ونقدم للجمهور وضوحا لا صدى.

وإن كان لا بد من عنوان يلخص الرحلة، فهو: نهر واحد غير مجراه. فكيف نضمن أن يظل هذا النهر نقيًا في مجراه الجديد؟


مدار الساعة ـ